نشرت صحيفة «الشروق» فى عدد الخميس الماضى موضوعاً فى صفحتها الأخيرة بعنوان «الجنود الأمريكان يحتلون وسط القاهرة فى أحدث لعبة ڤيديو» كتبه الأستاذ خالد موسى وذكّرنا فيه بموجة الألعاب الأمريكية التى تنبأت بانهيار الشرق الأوسط وسقوطه فى أيدى الجيش الأمريكى الذى تُظهره الألعاب فى صورة المخلّص للشعوب العربية، وبعد أن قدم لنا نماذج لهذه الألعاب وصل بنا إلى سلسلة جديدة منها تدور أحداثها عن فرقة قوات أمريكية خاصة تقوم بعمليات نوعية فى الدول العربية بعد أن انهارت أنظمتها عقب صراع مع الجماعات الإرهابية. وذكر الأستاذ خالد أن روّاد مواقع التواصل الاجتماعى يتداولون صورة من اللعبة للجنود الأمريكيين وهم فى القاهرة بعد تدميرها، لا قدّر الله، وتُظهر الصورة التى نشرتها الصحيفة أن الجنود فى طريقهم إلى «العباسية» وهو المآل الطبيعى لهم، حيث يقع «مستشفى المجانين» الشهير، والمفارقة أنه لا يبدو أن ثمة فارقاً كبيراً بين الطريقة التى يفكر بها مصممو هذه الألعاب وتلك التى يفكر بها اتجاه له وزنه فى التفكير الاستراتيجى الأمريكى والسياسة الخارجية الأمريكية، ولماذا نذهب بعيداً ولدينا أفكار «الفوضى الخلاقة» التى نالنا منها الكثير من الكوارث حتى الآن، وهى الأفكار المغلوطة التى تروّج لهدم ما هو قائم كى يتسنى بناء الجديد المنشود، وقد يكون لها أساس ما من المنطق لكنه ليس من الصحيح أن هدم القديم فى حد ذاته يضمن بناءً جديداً سليماً.
ولنبدأ على سبيل المثال بالعراق الذى غزاه مُخلّصنا الجيش الأمريكى فى ٢٠٠٣ بذرائع كاذبة، وهدم الغزو نظام صدام حسين بالكامل، وبشرنا الرئيس الأمريكى بأن العراق الجديد سوف يكون رأس رمح للديمقراطية والازدهار الاقتصادى فى الشرق الأوسط، وها نحن نرى ما آل إليه حال العراق اليوم من تفكك وعدم استقرار وتهديد لسلامته الإقليمية تحت وطأة ضربات داعش بفعل السياسة الأمريكية سواء تم ذلك بسبب سطحية التفكير الاستراتيجى لمخططيها أو نتيجة لتآمر شرير على الوطن العربى، وما زالت السياسة الأمريكية متواصلة، وآخر تجلياتها مشاريع تزويد الطوائف والأقليات القومية بالسلاح مباشرة وليس عبر الحكومة العراقية، بل إن مجريات أحداث ما يُعرف بالربيع العربى تستحق وقفة فى هذا السياق، فالشواهد واضحة على أن جهات ما فى دوائر صنع القرار الأمريكى كانت تدفع باتجاه التخلص من النظم العربية القائمة على الأقل فى عدد من البلدان العربية. ولست هنا، والعياذ بالله، من أنصار القول بأن انتفاضات الربيع العربى كانت نتاجاً لمؤامرات غربية وأمريكية بصفة خاصة، لأنه مهما بلغ التآمر لم يكن ممكناً لهذه الانتفاضات أن تطيح بالحكام الذين جثموا على صدور شعوبهم عقوداً دون تأييد شعبى غلّاب، لكن السياسة الأمريكية ساعدت على تأجيج الفوضى دون أن يؤدى هذا إلى أى «خلق»، ومن التجليات الكريهة لهذه السياسة الموقف الأمريكى الراهن من الإخوان المسلمين وإصراره على أن لهم دوراً فى معادلة المستقبل فى الشرق الأوسط، ولا غبار على هذا فى حد ذاته لولا أن الإدارة الأمريكية لا ترى، ولا تسمع، ولا تتكلم عن الإرهاب المجنون الذى تمارسه هذه الجماعة.
يعنى ما سبق أن ما تقول به «ألعاب الڤيديو» مغلوط. صحيح أن النظم العربية لديها أسبابها الذاتية الوجيهة للانهيار، لكن الأيدى الخارجية عامة، والأمريكية خاصة، ليست مبرّأة من هذا الانهيار، كما أن الجيش الأمريكى بالتأكيد ليس هو «المخلص» وفقاً لألعاب الڤيديو، فقد كان السبب الرئيسى لما يتعرض له العراق الآن من خطر تفكك داهم، وعندما بلغ الخطر ذروته بتحقيق الإرهاب للمرة الأولى مكاسب إقليمية بقيام «دولة الخلافة الإسلامية» على يد داعش وقفت الولايات المتحدة عاجزة بغاراتها الجوية الهزيلة عن وضع نهاية لهذه الظاهرة وستبقى هكذا، والخلاص الحقيقى بأيدينا نحن عندما ندرك حقاً أن الإرهاب سيبقى ملازماً لنا طالما لم نتخلص من نواقصنا الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبعد هذه «المقاربة السياسية» لألعاب الڤيديو لا يمكننى أن أختتم هذه المقالة دون التذكير بخطورتها الفائقة على التكوين العقلى والنفسى، بل والتنشئة السياسية، لأجيال من أطفالنا ومراهقينا، ولقد ذكر الأستاذ خالد موسى فى موضوعه الذى دفعنى لكتابة هذا المقال أن بعض الدول العربية حظرت تداول مثل هذه الألعاب لما تحمله من إساءة وتشويه، وهو ما فعلته الإمارات التى تنبأ أحد هذه الألعاب بانهيارها فى أعقاب صراع مع الجماعات الإرهابية، لكن سياسة المنع وحدها لا تكفى، بل إنها مستحيلة فى إطار التقدم التكنولوجى الخارق واستحالة المنع الكامل لتسربها عبر الحدود، فهل تتكاتف عقول المصممين المصريين والعرب، وأعلم أن مستواهم لا يقل عن نظرائهم فى العالم من حولنا، من أجل إبداع منظومة قويمة مسلية مشوقة من الألعاب الإلكترونية تحت إشراف خبراء التربية! ذلك لأن ضرر النوعية التى تحدثنا عنها من هذه الألعاب على عقول أطفالنا ومراهقينا لا يقل بحال عن الضرر الذى ألحقته بنا وما زالت السياسة الأمريكية الحمقاء فى منطقتنا من العالم والتى لا تختلف عقول مصمميها أحياناً عن عقول مصممى ألعاب الڤيديو التى أوصلت الجيش الأمريكى إلى العباسية.