يرى البعض من القراء أننى أنتقد جهود وتوجهات الحكومة فى معالجة أزمة سد النهضة، بدون أن أقدم رؤى أو حلولاً بديلة. ويرى البعض الآخر أنّه من الأفضل أن أقوم مباشرة بمكاتبة الحكومة والقيادة السياسية، بدلاً من نقدهم فى وسائل الإعلام، حتى لا تستخدمه جماعات الإسلام السياسى فى محاولاتهم البائسة للنيل من النظام. ويرى البعض من جماعات الإسلام السياسى أننى أنافق القيادة الحالية وأنّ نقدى أصبح حانياً بعد أن كان ملتهباً فى زمن الرئيس السابق. وأود أن أوضّح للقراء الأعزاء أننى منذ ثورة يناير 2011، لم أتوان عن مناقشة وعرض حلول لأزمات ملف حوض النيل، وقمت بالاشتراك وتنظيم ندوات وورش عمل داخل وخارج القاهرة فى أوقات حرجة شهدت قمة الاضطرابات التى شهدتها مصر عامى 2012 و2013. وقد شارك فى هذه الأنشطة العديد من خبراء مصر المميزين فى السياسة والهندسة والزراعة والقانون الدولى والجيولوجيا والبيئة والتاريخ، بالإضافة إلى ممثلين عن وزارة الرى. وقمت بنشر كتابين عن اتفاقية عنتيبى وأزمة سد النهضة الأول عام 2012 والثانى عام 2014. ومع بداية أزمة سد النهضة، أرسلت للمجلس العسكرى وتحديداً فى مارس 2011، مبادرة لحل أزمة السدود الإثيوبية، وأرسلت نسخة منها إلى السيد رئيس مجلس الوزراء وأخرى إلى الأجهزة السيادية والرقابية، ولم يرد علىّ أحد. وبعدها نشرت هذه المبادرة فى جريدة «المصرى اليوم»، ولم يكن هناك من يقرأ أو يهتم، فقد كان واضحاً أنّ أزمة سد النهضة لم تكن ضمن أولويات الدولة وقتذاك. وأثناء حكم الإخوان تم استدعائى للاتحادية فى أوائل يونيو 2013، وطلب منى تشكيل فريق استشارى لإعداد استراتيجية للتحرك المصرى فى أزمة سد النهضة. وبالرغم من معارضتى لهذا النظام فإننى لم أتوان عن دعم مصر فى هذا الملف الشائك، وقمت بالفعل بتشكيل فريق من 15 استشارياً فى معظم التخصصات المطلوبة وبالتنسيق مع الجهات السيادية، وتم إعداد مسودة للاستراتيجية، ولكن لم يتم استكمالها لقيام ثورة يونيو المصرية. وأرسلت فى مايو 2014 مبادرة للتعامل مع أزمة سد النهضة إلى الجهات السيادية والرقابية فى الدولة، ولم يرد علىّ أحد إلا السيد الموقر وزير الدفاع الحالى. وقد نشرت هذه المبادرة فى جريدة «الوطن» فى مقال بعنوان «نزع فتيل سد النهضة»، وتحدثت عنها تليفزيونياً فى العديد من البرامج، ولكن كالعادة لا يوجد رد فعل سواء بالإيجاب أو السلب. وعلى النقيض من ذلك، عندما عرضت المبادرة فى مارس الماضى فى محاضرات عامة ببعض الجامعات فى الولايات المتحدة الأمريكية، كان هناك اهتمام كبير بها سواء من الأمريكان أو من الإثيوبيين الذى حضروا هذه المحاضرات. أمّا بالنسبة لعرض القضايا والرؤى فى وسائل الإعلام، فإننى أراها واجباً وطنياً لتوعية المواطنين عن نوعية القضايا التى نواجهها، ولتقويم مجهودات الحكومة فى التعامل معها، ولإتاحة الفرصة للحكومة لسماع آراء ورؤى مختلفة. والمقالات ليست موجهة ضد الحكومة على الإطلاق بل هى لدعم جهودها وإظهار الرأى والرأى الآخر، بالإضافة إلى استكمال إحدى الحلقات الأساسية للمنظومة الديمقراطية التى تتطلع إليها البلاد.
وسألنى أحد الزملاء لماذا لا أتطرق فى مقالاتى عن دور السودان السلبى والمستمر فى أزمة سد النهضة؟ وهل يعود ذلك لانحيازى وحبى للشعب السودانى الذى أعربت عنه فى عدة مواقف سابقة؟ وقد أجبت صديقى بأن هناك فرقاً كبيراً بين معاتبة الشقيق ومعاتبة الغريب، وأن الشعب السودانى من أهم شعوب الأرض لمصر وأنهم يتشابهون معنا فى الفطرة الطيبة ودماثة الخلق، ويشاركوننا فى الدين والتاريخ والجغرافيا، وأنّ الحكومات تتغير أمّا الشعوب فهى الباقية، وأن هناك مصالح استراتيجية عديدة بين البلدين يجب عدم العبث بها. وبالرغم من ذلك، فقد سجلت جميع المواقف والأقوال السلبية لقيادة السودان بشأن سد النهضة فى كتاب «أزمة سد النهضة: قضية سياسية أم إشكالية فنية؟» عام 2014. وأيضاً فى مقالة فى جريدة «الوطن» بعنوان «هل يصلح أن يكون السودان وسيطاً؟» موضحاً أن دور السودان الطبيعى هو الشراكة مع مصر وليس الوساطة بين مصر وإثيوبيا. وأنّ القيادة السودانية، فى رأيى الشخصى، تدعم الجانب الإثيوبى على حساب المصالح المصرية. ولكن يجب عدم تجاهل التحسن النسبى فى علاقات مصر والسودان أخيراً بفضل جهود الرئيس السيسى. وأعتقد أنّه ما زال ينقصنا المكاشفة الموضوعية والمناقشة الحقيقية مع القيادة السودانية حول مواقفها السلبية نحو مصر ولو على الأقل فى الملف المائى. وأخيراً قلت لصديقى دعنا نتمنى أن نرى فى القريب العاجل تقارباً حقيقياً بين البلدين، وعوداً حميداً إلى شراكتهما الاستراتيجية.
فى الفترة الأخيرة لامنى أحد الأصدقاء المقربين، وهو من الصعيد الجوّانى وبيننا العديد من القواسم المشتركة، وذلك لعدم قيامى بالرد على هجاء أحد الصحفيين يقول فيه إنّ أحد وزراء الرى السابقين يتحدث فى الإعلام وينتقد القائمين على ملف حوض النيل بينما لم يفعل شيئاً يذكر حيال أزمة سد النهضة أثناء وجوده بالوزارة. وقال صديقى، وهو يعمل خبيراً استراتيجياً، إنه حزين لأنّ هذا الصحفى لا يدرك أن أزمة سد النهضة لم تبدأ إلا بعد ثورة يناير، ولم تكن وقتها أنت فى الحكومة. فقلت لصديقى إنّ هذا الصحفى الكريم لم يذكر اسمى صراحة وقد يقصد وزيراً آخر، خاصة أنّه بعد ثورة يناير أصبح جزء كبير من الشعب المصرى من الوزراء السابقين. وأضفت أننى أعذر هذا الصحفى لجهله بأساسيات ملف حوض النيل، فما بالك بالحقائق الأخرى التى تم التعتيم عليها خلال العقود القليلة الماضية ولا يعلمها إلا أقل القليل. وبالرغم من أنّ أزمة سد النهضة لم تظهر فعليا إلا بعد ثورة يناير، فإنّ لها خلفيات متشعبة قديمة تمتد لعشرات السنين. فقد تم اقتراح السد الإثيوبى لأول مرة فى فترة الخمسينات من القرن الماضى رداً على مشروع السد العالى، وساندته أمريكا بقوة ودعّم فكرته وقتها السودان، ولكن «عبدالناصر» نجح فى إيقافه وفى استكمال السد العالى. ثمّ جاء «السادات» وحاولت إثيوبيا مرة ثانية إقامة هذا السد، فهددها السادات بالحرب، ورضخت إثيوبيا وأوقفت المشروع. واستمرت مصر على هذا المنحى السياسى فى عصر مبارك ولمدة ربع قرن من الزمان، فى إطار من الشد والجذب لمنع التحركات الإثيوبية المنفردة لبناء سدود على النيل الأزرق. ولكن مع بداية عام 2005، بدأ مسار سياسى جديد يخالف التوجه المصرى القديم، وكان بداية وأساساً للنكسات التى نعانيها الآن، وللحديث بقية.