المشهد الخالد للفنان الكبير محمود المليجى والفنان الكبير إبراهيم الشامى فى ختام فيلم الأرض حين يُلقى الأخير حبلاً لتقييد «المليجى» وسحله فى أرضه، بينما أصابعه تتمسك بطين الأرض وأعواد القطن الصلبة التى تعلوها ثمرته البيضاء الناصعة، هذا مشهد محفور فى خيال كل من شاهد هذا الفيلم وأدرك قيمة الأرض فى وجدان المصريين. وحين اختار المخرج يوسف شاهين تنفيذ المشهد بمحصول القطن، فهذا لأنه كان يعرف ما يمثله القطن للمصريين منذ أجدادهم القدماء وحتى زمن قريب.
منذ أيام نُشر خبر صغير على أحد المواقع الإخبارية عن الاحتفال بجنى القطن فى محافظة بورسعيد فى منطقة سهل الطينة، وتفقد محافظ بورسعيد اللواء محب حبشى لموسم الجنى، وتصريحه بأن معدلات الإنتاج قد بلغت سبعة قناطير، فى إطار دعم المحافظة لتطوير الإنتاج الزراعى وتعمير الأرض وتحويلها إلى أرض خصبة.
الخبر ربما يبدو عادياً، لكن كلمة جنى القطن أثارت لدى البعض الشجون حول هذه الثروة الطائلة التى كانت تمتلكها مصر، وكان يطلق عليها فيما مضى الذهب الأبيض، والذى كان يشكل الرقم الأول فى الدخل المحلى المصرى، وقد أدرك المحتل والغرب قيمته جيداً فاستغله كما استغل ونهب الكثير من ثرواتنا التى ربما لا ندرك قيمتها حتى يومنا هذا، فى العام الماضى صدَّرت مصر ما يقرب من 52.5 ألف طن فى صورته الخام، بانخفاض حوالى مائة ألف طن عن العام الذى يسبقه، وبتراجع يبلغ 47.6%، ومع ذلك لا تزال المفاوضات جارية بين الشركة القابضة للقطن والغزل والنسيج، مع البنك الزراعى للحصول على تسهيلات ائتمانية بقيمة 20 مليار جنيه لتمويل شراء محصول القطن، وفى نفس الوقت تم تأخير موسم الجنى لمدة شهر بشكل استثنائى حتى بداية شهر أكتوبر المقبل. وكانت وزارة الزراعة الأمريكية قد توقعت فى تقرير لها تراجع إنتاج القطن المصرى فى موسم الجنى الذى سيبدأ خلال أيام بحوالى 11.4%، بسبب تراجع المساحات وهبوط أسعار القطن محلياً.
كل هذا ينبئ أن هناك حاجة ملحة، بل ربما ضرورة قومية لإعادة النظر فى أهمية هذا المحصول بالنسبة لبلدنا، والذى يملك تاريخاً طويلاً مع زراعة القطن بل ويمثل جزءاً كبيراً من وجدان المصريين، والذى منح مكانة متميزة لمصر فى هذا المجال، وهو ما يثير الآن علامة استفهام كبيرة حول التعامل مع القطن كأى محصول آخر، خاصة أن قطاع تصنيع المنسوجات والملابس لا يستهلك سوى 3% من إجمالى الناتج المحلى، وهو رقم هزيل لا يتناسب مع الإنتاج المصرى.
فى دراسة تحليلية لمشاكل ومعوقات إنتاج القطن فى ظل الأوضاع الراهنة قدمت الباحثتان كريمة زكريا وأم هاشم زكى دراسة مستفيضة، واتخذتا من محافظة كفر الشيخ نموذجاً، ودون التطرق لتفاصيل الدراسة فقد استوقفتنى آخر التوصيات التى قدمتها الدراسة وهى المطالبة بوقف استيراد القطن من الخارج إلا بعد تصريف المنتج المحلى.
إذن نحن لا نقوم بتصنيع القطن المصرى ونصدر معظم الإنتاج للخارج حتى يعود إلينا بأعلى الأسعار، ثم نستورد من الولايات المتحدة الأمريكية واليونان والسودان وأوزباكستان، وهى الأقطان التى تعتمد عليها المصانع المصرية العاملة فى مجال الأقطان، وبالطبع لأن سعر القطن المصرى أغلى ولأننا نحتاج عملات أجنبية، ولكن فى الحقيقة السوق المصرية تستطيع أن تغطى وتتجاوز كل هذا، بل نحتاج لدعم صناعة المنسوجات المصنعة من القطن المصرى وإعادة تصديرها، فمن المؤكد أن عائدها لا يقارن بتصديره خاماً. ولكن الأهم من كل هذا أن نعيد للقطن مكانته فى الزراعة وفى الصناعة وفى الاقتصاد، ببساطة لأن المصريين يستحقون هذا وأكثر.