منذ سنوات كتبت فى آخر شهر رمضان مقالة بعنوان «اليوم التالى» على غرار الفيلم الأمريكى الشهير «The Day After»، وهو فيلم لمن لم يشاهده أو لا يذكره يتحدث عن اليوم التالى لهجوم نووى متبادَل بين الولايات المتحدة والاتحاد السوڤيتى دمّر الحضارة الإنسانية، وكان منطقياً أن ما تفعله بنا الفضائيات التليفزيونية فى رمضان لا يقل تدميراً، ولم أعاود بعدها الكتابة فى الموضوع، ليس لقلة اهتمام بهذه الظاهرة الكارثية، ولكن لأننى اتخذت لنفسى بعدها ساتراً يقينى فضائيات رمضان لا أخرج من خلفه إلا متلصصاً كى أشاهد مسلسلاً تاريخياً أو دينياً مبدعاً أو آخر يتناول شخصية مصرية تاريخية حتى ولو كان سيئاً كى أتابع عملية تنشئة العقل المصرى أو تخريبه، غير أننى فقدت هذا العام قدرتى على الاختباء بعد أن بلغ السيل الزبى، وللعلم فإن السيل لم يبلغ الزبى للنمو السرطانى فى عدد المسلسلات أو لتردى مستوى نسبة معتبرة منها أو لشيوع الألفاظ البذيئة أو المشاهد الخارجة فيها أو لهيمنة الإعلانات عليها، فهذه كلها للأسف أصبحت من حقائق الساحة الإعلامية فى مصر نعرفها ونتعايش معها، ولكن السيل بلغ الزبى لأن هذا العام يشهد زيادة فى الدرجة لكل هذه الظواهر السلبية، وكما هو معلوم فإن الزيادة الكمية تفضى يوماً إلى تغير كيفى، ومعنى هذا أن مزيداً من الكوارث القيمية مقبل لا محالة، ومن الواضح أن هذا هو لسان حال الكثيرين بدليل الكم غير المسبوق من المقالات والتعليقات الذى نُشر فى الصحف المصرية بشأن هذه الظواهر السلبية منذ بدأ الشهر الفضيل وحتى الآن، ولولا أننى أحسست بأنه قد يكون لدىّ ما أضيفه لامتنعت عن الكتابة فى الموضوع اكتفاءً بما أقرأه من كتابات تشفى غليلى.
لا يعنى ما سبق أن أوصاف التفاهة والبذاءة تنطبق على الجميع، ولكن المعنى أن نسبة التافه والبذىء لافتة ومخيفة وأن امتحان الإبداع قد لا ينجح فيه أحد وأنه باستخدام قواعد الرأفة قد ينجح عدد من المسلسلات لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وقد وصلت إلى هذه النتيجة قبل أن يبدأ رمضان، ذلك أن الفضائيات بدأت الترويج لبضاعتها قبل ثلاثة أسابيع على الأقل من بدايته، الأمر الذى مكّننى بسهولة من أن أقرر الاكتفاء بالمتابعة المنتظمة لمسلسلين وإخضاع ثالث للاختبار. أما المسلسلان فهما «حارة اليهود» و«تحت السيطرة»، والأداء التمثيلى فيهما عالمى وبالذات بالنسبة لمنة شلبى ونيللى كريم وإياد نصار، وقد تعجبت كثيراً من توجيه تهمة التطبيع لـ«حارة اليهود»، فالمسلسل يبرز سماحة الشعب المصرى ونسيجه المتماسك، وهو ما نباهى به الأمم، ويبعد عن التصوير المشوه لشخصية اليهودى المصرى، ويعرض بموضوعية للصراع داخل الجماعة اليهودية المصرية ويتبنى الموقف الصحيح من الصراع العربى - الإسرائيلى، أما «تحت السيطرة» فكان من الأفضل أن يكون أقل إسهاباً فى عرض مشاهد المدمنين، ليس لأن هذا عيب فى حد ذاته ولكن لأننى أشعر من فرط الإسهاب أحياناً أن هاجس الثلاثين حلقة هو صاحب الكلمة العليا، أما المسلسل الذى خضع للاختبار فقد رسب عندى منذ الحلقة الأولى وفقاً لمقولة «أول القصيدة كفر» بعد أن شاهدت التصوير المشوه والرخيص لقيادات الجامعة فى الأسابيع السابقة على ثورة يناير، وفرق كبير بين أن تعمل هذه القيادات فى إطار الولاء للنظام القائم وبين أن تكون مجموعة من المهرجين الأقرب إلى شخصية البلياتشو، وقد يُنتقد الدكتور حسام كامل آخر رؤساء جامعة القاهرة قبل ثورة يناير من البعض لعدم الاعتراض على هذه الممارسة أو تلك من قبَل الحكومة لكنه كان أستاذاً وعالماً ومديراً قديراً لجامعة القاهرة، ولم يكن ولو للحظة مهرجاً أو بلياتشو، وقد اعتبرت هذه البداية غير الموفقة جزءاً من مسلسل تشويه الشخصيات المحورية فى مجتمعنا كما تم بالنسبة لشخصية المعلم فى «مدرسة المشاغبين» والأب فى «العيال كبرت»، وقد سمعت وقرأت بعد ذلك أن تهمة تشويه شخصية أستاذ الجامعة اليسارى قد أضيفت لموبقات المسلسل، غير أننى لم أتمكن من العودة لمتابعته لأنك لا تستطيع أن تبدأ حواراً مع من يبادرك بسب دينك.
وأخيراً فإن ثالثة الأثافى هى برامج المقالب الممجوجة، وأسوأ ما فيها أنها أكذوبة كبرى لا تنطلى إلا على القلة القليلة، فقد أصبح الكل تقريباً يعلم أنها لا مقالب ولا يحزنون وإنما هى مواقف معلّبة يشارك فيها نفر من الفنانين المعروفين، وربما المشهورين، لقاء مقابل نقدى ضخم وهم للأسف غافلون عن أن هذا المقابل مهما بلغ لن يعوضهم عن التشويه البالغ لصورتهم عند معجبيهم ويفاقم مسئوليتهم عن الألفاظ البذيئة التى تصدر عنهم تحت وطأة المقلب المفبرك وصولاً إلى سبّ الدين، وهى ألفاظ لا تُفلح صفارات التعمية فى إخفائها، والمؤلم المقلق أن هذه البرامج المنحطة تحظى بمشاهدة واسعة كما يبدو من زمن الإعلانات التى تتخللها، ولهذا دون شك دلالاته بالغة السوء بالنسبة لتردى الذوق العام فى مصر، كما أنه يفتح الباب على مصراعيه لمناقشة هيمنة الإعلان على حياتنا برمتها وليس على إعلامنا فحسب، وهو ما سوف يدعو إلى استكمال النقاش فى هذا الموضوع الحيوى فى المقالة المقبلة إن شاء الله.