«كل راجل واقف على رجله فى غزة هو صلاح الدين»
لقدَرٍ ما، كنتُ أول من سمع هذا الكلام من قائله، وما زلت متيماً به وحائراً فى أمره.. أىُّ يقين امتلكه ليُطلق هذه العبارة كقذيفة من «المسافة صفر» باتجاه رأسى! ومن أى مخزون داخله استدعى هذا المعنى؟!
الرجُل الذى يبدو فى هيئةٍ مُنهَكةٍ، منكفئ على أكل عيشه طوال الوقت تقريباً «سائق بمنطقة مصر القديمة».. لا فى يده موبايل ولا أمامه تليفزيون.. فكيف استشعر لهذه الدرجة جسارةَ المقاومة وعِظَم التضحية، حتى يرى فى «كل راجل واقف على رجله فى غزة صلاح الدين»!
ببساطة، استطاع إقناعنا أن «10 كلمات» صادقة تكفى للتعبير ببساطة عن الموقف من الحق ومن قضية عادلة، وقدَّم دليلاً جديداً على أن «صوت الناس» الأصدق دوماً.
لكنى لا أعلم يقيناً أى عصب حساس لمسه كلامه فى نفس كل من قرأه أو سمع به. قد يكمن السر فى أن الـ«10 كلمات» كثيفة المعنى عميقة الرؤية جاءت فى لحظة انكشاف كبرى لنا جميعاً، وحملت مفارقات تجعلها جديرة بالتأمل.
وعلى صفحات السوشيال ميديا، طار «البوست» الذى كتبتُه عن كلامه، وشاركه الآلاف إعجاباً به. وهذا نصُه:
«المكان: ميكروباص متجه للسيدة عائشة.. الزمان: مساء 6 أكتوبر 2024.
أجلس فى الكنبة الأخيرة.. صوت السائق العالى يصلنى بوضوح رغم ضوضاء الطريق.
أمامى شاب سودانى وزوجته تلفهما الدهشة مما يرونه فى مصر القديمة.. وبلهفة يسألان السائق عن شوارع وأسوار أثرية ومقابر وقباب.
اتخذ السائق الأسمر ذو الشارب الكث والصوت الإذاعى الرخيم وضع المرشد السياحى، وأغناهما عن السؤال.. هنا عين الصيرة.. واللى هناك دى البحيرة.. ودى الفسطاط الجديدة.. وكدا مقابر السيدة نفيسة.. هنااااك شارع الأشراف.. واللى جنبنا ده سور مجرى العيون.. خلاص داخلين اهوه ع السيدة عيشة.. خدوا بالكم بقى.. دى قلعة صلاح الدين.. مش محمد على.. قلعة صلاح الدين.. الأيوبى. سمع الشاب السودانى اسم صلاح الدين فلم يحتمل الصمت.. قاطعه بلهجة لا ينقصها صدق الدعاء: ربنا يعيده يا أخى والله.. ربنا يعيده صلاح الدين.
يعاجله السائق بالرد: اسمع.. كل راجل واقف على رجله ف غزة هو (صلاح الدين).. يكررها مرتين وينتهى الحوار.
وصل الميكروباص محطته الأخيرة.. ابتلعتنا جميعاً فوضى الميدان وتُهنا فى الزحام.. وبقيت كلمات السائق تدوى فى رأسى: كل راجل واقف على رجله ف غزة هو (صلاح الدين).. تمت».
غادرت الميكروباص تحت سفح القلعة، مسكوناً بكلام السائق. وتمنيتُ مع السودانى القادم لمصر من بلد مأزوم، مثلما نتمنى دوماً: «ربنا يعيده صلاح الدين».. لكنه وحده سائق «مصر القديمة» يقهر الإحباط العام بأثر الفطرة ودلالة الرمز: «كل راجل واقف على رجله ف غزة هو (صلاح الدين)».
ليلتها.. فارقنى النوم، نهضت وأطلقتُ الكلام من رأسى فى فضاء يتسع لجماله.. كتبتُ ونشرت، ثم أغمضت عينى فنمت.
ظُهر اليوم التالى «7 أكتوبر».. تتصدر الشاشات ذكرى عام على «طوفان الأقصى» والعدوان الصهيونى على غزة وتوقعات هجوم إسرائيلى على إيران، وتداعيات اغتيال سماحة السيد حسن نصر الله وقادة حزب الله اللبنانى.
تساءلتُ بينى وبين نفسى: هل سمع هذا السائق بقصيدة أمل دنقل «لا وقت للبكاء» التى كتبها تعليقاً على رحيل جمال عبدالناصر، واستلهم منها عبارته.. يقول «أمل»:
«رأيت فى صبيحة الأول من تشرين
جندك.. يا حطين
يبكون
لا يدرون
أن كل واحد من الماشين
فيه صلاح الدين!»
فى لحظة انكسار كبرى استدعى الشاعر رمزاً تاريخياً عظيماً، ورأى الشعب الحزين كجنود حطين.. كل واحد منهم فيه «صلاح الدين»، وعليهم أن يستنهضوه لتحرير الأرض المحتلة. وحقاً.. ما أشبه اليوم بالبارحة «لا وقت للبكاء».
دارت برأسى أسئلة كثيرة بحثاً عن دوافع السائق ليقول ما قال.. هل مرت عليه مقولات تراجع اهتمام الناس بقضية فلسطين، وتخليهم عن المقاومة على طريقة «كغزاوى إحساسك إيه يوم 7 أكتوبر؟ فى رده الواثق واختياره المُلهم للرمز «صلاح الدين»، يدحض الرجُل مثل هذه التُرهات.
صلاح الدين، مؤسس الدولة الأيوبية، وموحد مصر والشام والحجاز وتهامة واليمن.. والقائد البارز للمعركة الأشهر فى التاريخ العربى والإسلامى «حطين»، التى استعاد بها أراضى فلسطين ولبنان المقدسة من الصليبيين، بما فيها القدس.
وعندما فوجئت بحالة تفاعل غير مسبوقة حول «البوست».. طفتُ أسأل عن سببها: المحتوى أم التقنية أم كلاهما؟ سمعت آراء كثيرة، لكننى أدعوكم لنتشارك فى حل اللغز بأنفسنا، ونجيب على السؤال: إذا صادفت كلاماً كهذا.. ماذا يدفعك لإعادة نشره؟
وسأبدأ بنفسى وأقول: الصدق.. وسوف أُزيِّن وألخِّص إعجابى به بكلمات «الأبنودى» المحببة لى: «ماتمنعوش الصادقين عن صدقهم.. ولا تحرموش العاشقين من عشقهم.. وإذا كنا مش قادرين نكون زيهم.. نتأمل الأحوال.. ونوزن الأفعال.. يمكن إذا صدقنا نمشى فى صفهم».