«امرأة فى السبعين من عمرها، تقف على المسرح، تغنى أمام الناس؛ قائلة: خدنى فى حنانك خدنى.. عن الوجود وابعدنى. ياخى خدك ربنا».. هكذا كان يقول الشيخ الراحل عبدالحميد كشك، من على منبر مسجد «عين الحياة»، بمنطقة حدائق القبة، حيث كان الناس يتكالبون على سماع خطبه بالآلاف، فيسدون الشوارع، ويشلون حركة المرور.
بعض الذين كانوا يطربون لشدو سيدة الغناء العربى أم كلثوم كل مساء، كانوا ينتشون يوم الجمعة لسماع هذا النقد القاسى بحقها من الشيخ الضرير، فى خطبته «البديعة»، التى تحظى بأكبر قدر من الجماهيرية فى بلد يحوى، آنذاك، عشرات آلاف المساجد.
لم يكن الشيخ كشك يهاجم «الست» فقط، لكنه أيضاً كان يستهدف عبدالحليم حافظ، نجم نجوم الغناء وقتها، مُعلقاً على رائعته «قارئة الفنجان»، خصوصاً المقطع الذى يقول فيه: «إنى أتنفس تحت الماء.. إنى أغرق أغرق أغرق»، بقوله: «لعنة الله عليك.. ألك خياشيم يا عُبد؟».
الشيخ الذى ولد فى الثلاثينات من القرن الماضى، وأتم حفظ القرآن فى الثامنة، ولم يمنعه فقد البصر من الحصول على شهادة فى «أصول الدين» من الأزهر، كان نجماً شعبياً بلا منازع؛ إذ لم يوفر أحداً دون أن يهاجمه من نجوم الغناء المشهورين.
هاجم الشيخ أم كلثوم وعبدالحليم ومحرم فؤاد، الذى اتهمه بالكذب لأنه ادعى فى إحدى أغنياته أن رموش حبيبته جرحته، معتبراً أن الجرح لا يتحقق إلا إذا كانت تلك الرموش «أمواس حلاقة».
الشيخ كشك ترك نحو ألفى شريط كاسيت، تُسمع حتى اليوم عبر بعض الوسائط، وتُبث أجزاء منها على مواقع بالإنترنت، لكنه ترك مع هذا طريقة فى الأداء فريدة، و«كنز من الإفيهات» لا ينفد وقابل للاستعادة، ومقولات ذهبت أمثلة سائرة يتداولها الناس، ومقاطع تهكم مفصلية لا تزال تشاغب من انتقدهم وشن هجماته عليهم رغم مرور العقود.
لو كان الشيخ كشك حيا اليوم لوجد مادة خصبة أكثر دسامة وتشويقا لشن الهجمات وتعليق المشانق؛ فثمة حالة غنائية شديدة الاضطراب والخلط، وهناك «اليوتيوب»، و«تيك توك»، وما يحدث عبر هذه الوسائط كان سيمنح الشيخ محتوى لا ينضب، وفرصاً لا تنفد للنقد والتقريع.
لم أجد أبداً أن الشيخ كشك كان على حق فيما ذهب إليه من طريقة لاستهداف صناعة الغناء فى زمنه، وهو أمر لا يقلل من نجاحه الواضح فى جذب السامعين، وامتلاكه مهارات خطاب عمومى واتصال فريدة.
وببساطة فإن هذا الشيخ لم يكن ناقداً فنياً بطبيعة الحال، ولم يقارب النشاط الفنى بأى من أدوات النقد الموضوعى والبناء، كما أنه أظهر درجة كبيرة من كراهية الفنون، وعدم إدراك طبيعتها، وحمل بشدة، ومن دون ذرائع منطقية فى أغلب الأحيان، على فنانين موهوبين ومجيدين، كانوا، وسيظلون، جزءاً مهماً من سيرة مصر الفنية الناصعة وألقها الثقافى.
ومع ذلك، فإننا فى حاجة إلى ناقد لاذع فى أيامنا هذه لطبقة جديدة من المحسوبين على مجال الغناء، والمقصود بهؤلاء من يدّعون أنهم مطربون، خصوصاً من مؤدى «الراب» و«المهرجان»، الذين يسرفون فى ابتداع الأغانى غير اللائقة والصادمة فى أحيان عديدة.
لقد ظهرت طبقة من مؤدى «المهرجان» فى العقد الأخير قوامها صبية وشبان فى العقدين الثانى والثالث من العمر، معظمهم من مناطق شعبية، يؤدون نوعاً من الغناء الذى ازدهر فى الأفراح الشعبية، وعبر منصتى «تيك توك» و«يوتيوب»، ووجدوا رواجاً وازدهاراً، بحيث حقق بعضهم مئات الملايين من المشاهدات.
وفى أكثر التقديرات محافظة، فإن مؤدى «المهرجانات» باتوا حقيقة ساطعة، ويحظون بجماهيرية تتخطى عشرات الملايين فى مصر وخارجها، وباتوا يتمتعون بالطلب حتى فى أكثر الأوساط رقياً على الصعيدين المالى والاجتماعى.
لا ينبغى علينا أن ننظر إلى حالتى «الراب» و«المهرجانات» باعتبارهما حالتى غناء فقط، لكنهما جزء من تعبير سياسى واجتماعى وثقافى يخص الأجيال الجديدة ويعكس ذائقتها وتطلعاتها ويترجم انتماءاتها، كما أن هذا التعبير شق طريقه بسلاسة فائقة ليضحى جزءاً من ثقافة الغناء لدى قطاعات وطبقات أخرى فى المجتمع.
ومن بين ما وجدته من عناصر لتلك الثقافة السائدة، سواء فى «الراب» أو «المهرجان» أو بعض الأغانى الجديدة، غياب واضح للوحدة الموضوعية، وشيوع لعدم الاتساق، وتهشم مزرٍ للغة بلهجاتها المختلفة، وإصرار على السجع المتكلف والقوافى المصطنعة، ودرجة من الإباحية مقلقة وغير مسوغة، ونبرات استعلاء وتجبر، ونزعة للتمييز، وفردانية تكره الجماعة وتشيطنها، وازدراء عميق لـ«الآخر».. أى «آخر»، وميل واضح للصدام واستخدام لغة العنف.
لم يكن الشيخ كشك موفقاً فى استهدافه غناء أم كلثوم وعبدالحليم وغيرهما من عمالقة الفن، الذين أثروا ثقافتنا بصيغة غناء فريدة وعابرة للحدود، وباتوا أيقونات مصرية تجسد الألق الثقافى للبلاد، وترفد قواها الناعمة بعوامل البقاء والتأثير.
لكن وجود «شيخ كشك» جديد اليوم، أكثر إخلاصاً لفكرة الفن، وفهماً لها، قد يكون مفيداً فى حال ركز نيران مدفعيته الثقيلة على بعض أنماط «المهرجان» و«الراب» والغناء المسف والمبتذل، والتى كادت أن تغرقنا فى حالة غنائية سخيفة وبائسة