فى كل يوم، نصادف عبر وسائل التواصل الاجتماعى ما هو ثمين ومفيد وما هو غث وضيع، ونحاول قدر المستطاع الاستفادة مما هو مفيد، ثم نتحير كثيراً أمام الانحطاط والتدنى، هل نتجاهله حتى لا يلتفت إليه أحد ويمر سريعاً دون اهتمام، أو علينا أن نلقى الضوء عليه وننبه لما يحمله من تشويه وأخطاء لا يجب تركها دون تصحيح؟
هذه الحيرة هى التى وقعت فيها حين استمعت لرجل كويتى كبير فى السن، صغير فى العقل، أطلق على نفسه وصف مفكر، وهو لا ينتمى إلى الفكر ولا الفهم ولا العقل من قريب أو بعيد، ولعل السبب يكون معروفاً للكثيرين من الذين يتابعون الشأن العام ويعلمون جيداً أن جماعة الإخوان التى ينتمى إليها لا تملك مبدعاً واحداً، لذلك لا يعترف أتباعها بالإبداع ولا بالمبدعين.
من هنا خرج علينا هذا المدعو عبدالله النفيسى الذى كثيراً ما صادفتنى تعليقاته وحواراته الشاذة التى كنت أمر عليها سريعاً، لعلمى أنها بلا نفع ولا جدوى، وأن هذا الرجل من النوع الذى يريد أن يثير الزوابع حتى تتسلط عليه الأضواء، لهذا فهو من محبى الشهرة فى أسوأ صورها، وأنا هنا لن أتعرض لآرائه، لأنها لا تهمنى كثيراً، ولكنى سأتعرض لما صادفته مؤخراً عن حوار له مع الإعلامى الكويتى عمار تقى، وقد أساء فيه إساءات بالغة لسيدة الغناء العربى السيدة أم كلثوم، فخر مصر والعرب وسفيرة الفن المصرى.
هنا حينما أقول هذا عن السيدة أم كلثوم، فإننى لا أقوله لكونها فنانة مصرية تنتمى لوطنى فقط، ولكن أقوله للحالة الفنية والاجتماعية والسياسية التى خلقتها هذه السيدة فى كل الوطن العربى من المحيط إلى الخليج، وأقوله لأننى أخشى على شباب صغير يعيش عصر أغانى المهرجانات والابتذال أن يعتقد أن هذه هى الحقيقة، ولا يعرف أن هذه السيدة فى وقتها جعلت العالم العربى كله بشعوبه، وحتى بفنانيه، يتطلعون إليها كقيمة كبيرة.
أنا لا مانع عندى من أن يبدى أى أحد رأيه بحرية تامة، ولكن حين يهذى أحد بما يسىء إلى مصر كلها، فعلينا أن نوقفه عند حده ونوضح الحقيقة المخزية، فمن حقه ألا يعجبه صوت أم كلثوم، أو حتى لا يعجبه تاريخها العظيم الذى جعل ملوكاً ورؤساء ينحنون لها احتراماً وتبجيلاً، ولكن لأن هذا الغثاء الذى أخرجه من فمه لا يمكن السكوت عليه.
فلم يكد أن ينطق المحاور الكويتى عمار تقى باسم السيدة أم كلثوم، ولم يكمل عبارته، حتى سارع «النفيسى» بقوله: لا تقل سيدة لا تستاهل كلمة سيدة! ثم قال عبارته البشعة: هذه سفيرة الفساد! وهى تمثل فناً للإيجار! فمن يريد أن يستأجر الفن فليستأجر أم كلثوم! حين سأله عمار تقى عن سر تحامله على السيدة أم كلثوم وأنها غير مسئولة إن كان بعض مَن يستمعون إليها يتعاطون الحشيش، لكنها كانت فى بداية حياتها تقرأ القرآن والتواشيح الدينية، ثم ما قدمته من حفلات للمجهود الحربى، وأن غناءها كان مختاراً بعناية وليس به فحش أو ميوعة، وأن انتقاداته بسبب انتمائه لجماعة الإخوان؟
كانت ردوده متدنية مثله، فقد راح يتناول غناء أم كلثوم فى مدح الملك فاروق، ثم عندما قامت ثورة يوليو غنت للثورة ولجمال عبدالناصر وأن هذا فن للإيجار، ثم اعتبر أن ما كتبه نجيب محفوظ فى روايته (ميرامار) عن ليلة حفلة أم كلثوم كانت جلسات حشيش، وأن نجيب محفوظ ربط بين حفلات أم كلثوم وبين المزاج المصرى والحشيش، وأن حفلات أم كلثوم تصنع حالة من الهذيان يعيشها الشعب المصرى حين تغنى أم كلثوم، ويرى أن ما شاهده فى جمهور حفلات أم كلثوم كان الناس فيها مغيبين تماماً! وتناسى تماماً أغانيها الوطنية والدينية وقصائدها التى لم يجرؤ أحد أن يطالها فيها.
الحقيقة أن هذا الرجل هو المغيب وهو الذى يهذى، فهو يريد النيل من الشعب المصرى وليس من أم كلثوم كما لو كان شعباً من الحشاشين، وبجهله وغبائه لم يستطع أن يفسر الحالة التى صنعتها السيدة أم كلثوم سوى أنها حالة نتجت عن تناول الحشيش، أو هكذا أراد أن تكون رسالته، وهذا تفسير مريض وقاصر بل وغبى، فكل الأسر المصرية التى استمتعت بحفلات أم كلثوم برجالها ونسائها فى بيوتهم أمام الراديو أو أمام شاشة التليفزيون وحتى الذين حضروا تلك الحفلات، وعائلتى منهم، كانوا يعيشون حالات من الرقى الفنى الذى لم يكن له مثيل فى عصره ولا فى العصور التى تلته، ولم يصل إليه أحد، ولم يقتصر على مصر فقط، لأن تلك السيدة جابت أنحاء الوطن العربى وأقامت حفلات فى معظم الدول العربية، ومنها دولة الكويت التى ينتمى إليها هذا المخبول الذى قصَّر نظرته الضيقة على أشياء غير حقيقية وعلى أكاذيب اخترعها هو ومَن على شاكلته من أجل الشهرة، التى لن ينالها باحترام وإنما باستنكار، وسيذهب هو إلى النسيان بلا رجعة، بيننا ستبقى أم كلثوم قيمة عظيمة فى تاريخ الفن المصرى والعربى.