ينتظر العالم كل أربع سنوات إجراء الانتخابات الرئاسية الأمريكية التى صارت بمثابة معمل تطوير تقنيات الانتخابات وتكتيكات العملية الانتخابية وأساليب استمالة الناخبين والتأثير على توجّهاتهم. كان عام 2008 عام أوباما، الذى استطاع من خلال حملته ومديرها البارع ديفيد أكسيلرود تطويع الإنترنت لصالح الحملة، وكانت المرة الأولى فى تاريخ أمريكا التى لعبت فيها الشبكة دوراً مرجّحاً لصالح المرشح ذى الجذور الأفريقية، وجاء ترامب عام 2016 ليُطور اللعبة الإلكترونية ويسيطر من خلال شركة فى لندن على بيانات أعضاء «فيس بوك» ليقهر هيلارى كلينتون.
فى الانتخابات الأخيرة كان الذكاء الاصطناعى استقر ورسخ وصار الأداة الأكثر تأثيراً فى توجيه الناخبين واستمالتهم نحو مرشح معين، بالتوازى والتكامل مع استخدام وسائل التواصل الاجتماعى، فالذكاء الاصطناعى لديه القدرة على تغيير فاعلية الطريقة التى تُدار بها الحملات السياسية، فى ظل تطلع تلك الحملات إلى استخدام التكنولوجيا لتعزيز فاعلية وكفاءة جهود التوعية الخاصة بها، بما يُمكن المرشحين من إنشاء رسائل أكثر تركيزاً، ونشر خطط توعية أكثر تأثيراً، وإشراك الناخبين بصورة أكثر نجاحاً، بما يُمكن فى النهاية من اتخاذ خيارات احترافية معتمدة على البيانات.
لم تكشف بعد أسرار استخدام الذكاء الاصطناعى فى حملة ترامب أو هاريس، إنما المؤكد أن الذكاء الاصطناعى يزيد فاعلية الحملة الانتخابية، حيث يتولى إدارة الحملات بالكامل ويعمل بعناية ودقة على إشراك الناخبين لصالح مرشح معين ومساعدة الناخبين على الاختيار بتوجيه محدّد بعد أن يُحدّد سماتهم واهتماماتهم ومن ثم توجيه الرسائل الشخصية المناسبة لهم. بجانب ذلك يدعم الذكاء الاصطناعى تفاعل وسائل التواصل الاجتماعى، ويتيح الفرصة للعاملين فى الحملة الانتخابية لأن يُركزوا على المهام الاستراتيجية فى الحملة، بينما يساعد فى توفير البيانات وتحليلها وإعداد التقارير والخطابات السياسية.
استطاعت حملة ترامب استخدام الذكاء الاصطناعى بفاعلية وتأثير أكبر من حملة هاريس، وكان من بين الفوائد التى حصلت عليها الحملة أن تنبّأ الذكاء الاصطناعى بفوز ترامب بناءً على ما حصل عليه من معطيات، كأنماط تصويت سكان الولايات، وتفضيلاتهم الانتخابية، وذلك بعد تحليل ما تنشره وسائل التواصل الاجتماعى، وما تعرضه القنوات التليفزيونية وتنشره الصحف. كان الذكاء الاصطناعى أيضاً عنصراً فاعلاً للغاية من خلال التفاعل مع الناخبين بتلقى تساؤلاتهم والرد عليها والقيام بحوار تفاعلى مع كل فرد. استفادت حملة ترامب من قيام الذكاء الاصطناعى بتحليل مشاعر الناخبين من خلال البيانات التى وصلته، وهو ما ساعد الحملة على تعديل مسارها بمرونة وثقة. قلّل الذكاء الاصطناعى الكثير من الوقت والجهد بقيامه بفحص كميات كبيرة من البيانات والمعلومات لتوفير رسائل انتخابية أكثر دقة، واستهداف كتل سكانية بعينها.
ارتفع بشكل كبير استخدام أدوات الذكاء الاصطناعى القادرة على إنشاء صور واقعية، ومحاكاة الأصوات، وكتابة نصوص تبدو بشرية إلى حد مُقنع، تزامناً مع إطلاق شركات منتجاتها التى تُوَظَّفُ التكنولوجيا لإنشاء محتوى سياسى على نحو متزايد، حيث تكلفة صناعة المحتوى المتلاعب رخيصة، وإنتاجه بكميات هائلة سهل جداً وهو ما يخشاه خبراء رقميون فى عصر الذكاء الاصطناعى التوليدى. إن التضليل المغرض المولّد باستخدام الذكاء الاصطناعى، لخداع الجماهير لا يهدّد فحسب الجماهير، بل أيضاً يُزعزع بيئة المعلومات المهزوزة أساساً، وذلك بإغراقها بالمغالطات.
ليس فى أمريكا فقط تم استخدام الذكاء الاصطناعى، بل انتشر استخدامه فى المجال السياسى فى دول كثيرة، استخدمه من قبل ببراعة رئيس وزراء الهند فى حملته الانتخابية التى اكتسح فيها منافسيه، واستخدمه الرئيس الفرنسى ماكرون، وكذلك فى انتخابات ألمانيا، وفى اليابان صار النّواب يوظّفون الذكاء الاصطناعى فى نشاطهم البرلمانى وصياغة مشروعات القوانين.
للذكاء الاصطناعى جانبان، أحدهما أنه باستخدامه يمكن تضليل الجماهير، والآخر أنه باستخدامه يمكن تسهيل العملية السياسية والتفاعل بشكل أكثر إيجابية مع الناس. ولن ننتظر طويلاً لكى نرى إلى أى مدى يتدخّل الذكاء الاصطناعى فى حياتنا.