فى المسافة ما بين السياسة والمجتمع، تبرز مساحة نادرة وشديدة الخصوصية فى الدول العربية والإسلامية؛ وهى المساحة التى تُعنى بجسد المرأة، وحضورها فى المجال العام.
فتلك المساحة، التى تنكمش أو تتمدد، بحسب قرارات وتوجهات سياسية تجد غالباً بيئة اجتماعية مواتية، لا تتوقف عن إثارة الضجيج من وقت لآخر. فمن إيران، التى يظل الحجاب، وجسد المرأة فيها، عنواناً لمساجلات وصدامات سياسية ومجتمعية متكررة، إلى دول الخليج العربية التى تفجر التطورات الاجتماعية فيها الجدال بلا انقطاع، فيما يخص علاقتها بجسد المرأة وحضورها العمومى، إلى دول أخرى فى المشرق العربى أو شمال أفريقيا، تتوالى العناوين اليومية عن قرارات وصراعات تخص الحجاب والسفور، أو قيادة المرأة السيارة، أو الاختلاط فى الأماكن العامة.
وفى مطلع الشهر الحالى، كنا على موعد مع قصة جديدة مثيرة فى هذا الملف الملتهب، حين تفاجأ العالم بشيوع فيديو على وسائل «التواصل الاجتماعى» يُظهر طالبة جامعية إيرانية تتجول فى فناء جامعتها مرتدية فقط ملابسها الداخلية، اعتراضاً على ضغوط رجال الأمن عليها، بسبب ما رأوا أنه «ارتداؤها الحجاب بطريقة سيئة». وقصة الحجاب السيئ شائعة فى إيران، ومفادها أن السلطات ترى وجوب ارتداء الحجاب بطريقة معينة، وعندما لا يحدث ذلك، فإن «شرطة الأخلاق» ستقوم بضبط المرأة المخالفة، وسترسلها إلى السجن.
وقد باتت تلك القصة قضية عالمية، فى عام 2022، عندما أدت الإجراءات الخشنة بحق فتاة تُدعى مهسا أمينى إلى موتها، بعدما تم توقيفها بتهمة «الحجاب السيئ».
وفى منطقة الخليج العربى، تفور وسائط «التواصل الاجتماعى» بقصص ودعاوى زاعقة تتناول ما تشير إلى أنه «عدم اعتداد بالضوابط الشرعية المرعية حيال وجود المرأة فى المجال العام»، وهى قصص تجد مناصرين ومدافعين من مختلف المستويات الاجتماعية، وبعضهم يعيش فى أوروبا أو أمريكا.
لكن جديد المعارك المتكررة على جسد المرأة وحضورها العمومى أتى تلك المرة من ليبيا؛ حين دعا وزير داخلية حكومة «الوحدة» عماد الطرابلسى، فى 6 نوفمبر الجارى، إلى «فرض الحجاب الإلزامى»، وضبط حضور المرأة فى المجال العام، وهو الأمر الذى شهد جدلاً مجتمعياً إزاءه، لكن الأجسام السياسية الرئيسة فى هذا البلد، الذى يشهد انقساماً منذ نحو 13 عاماً، لم تتدخل لحسمه.
وبموازاة تلك الدعوى، بدا أن بعض السلطات الفاعلة فى الغرب الليبى، الذى تتقاسم فيه النفوذ بعض الميليشيات ذات الإسناد الدينى مع الحكومة المؤقتة، سعت إلى تطبيق إجراءات جديدة على الأرض، حيث أقدمت على غلق صالات رياضية ونوادٍ نسائية، بداعى أنها تشجع على الاختلاط، ولا تقيم الضوابط الشرعية.
يندد معارضو هذا التوجه، وجلهم من نشطاء حقوق الإنسان، والسياسيين المعتدلين، وبعض المنظمات الحقوقية الدولية، ونساء بارزات فى مجالات الإعلام والمحاماة، بتلك الإجراءات، ويعدونها تغولاً وافتئاتاً على الحقوق والحريات، التى ينص عليها الإعلان الدستورى الليبى.
لكن ثمة من يؤيد تلك الإجراءات بالطبع، ويرى فيها «تنفيذاً للشرع، وسعياً لنشر الفضيلة»، وهو الأمر الذى يظهر بوضوح فى بعض مواقع «التواصل الاجتماعى» من جانب، ويؤيده غياب أى مراجعة سياسية أو قانونية لذلك التوجه ومفاعيله على الأرض من جانب آخر.
سيمكن لأى متابع مدقق أن يلاحظ ارتباطاً واضحاً بين الإخفاق السياسى وشيوع الفساد وتدنى الكفاءة الإدارية من جانب، والحرص البالغ على تغطية جسد المرأة، أو تضييق حضورها فى المجال العام من جانب آخر، فى بعض البلدان العربية والإسلامية.
ويبدو أن الإخفاق فى معارك التنمية والحداثة والعلم والمواجهة مع المنافسين والخصوم فى الإقليم وخارجه، يدفع إلى البحث عن معركة سهلة يمكن أن يتحقق فيها النصر، وستكون تلك المعركة مع جسد المرأة، التى أوقعتها الظروف التاريخية والجغرافية والتقاليد الاجتماعية غير الإيجابية فى هذا المأزق.
والواقع أن الإصرار المبالغ فيه على تضييق حضور المرأة فى المجال العام، واعتبارها مصدراً للشهوات والشرور ليس إلا، لا يقابله فى مجتمعاتنا سوى ميل مشابه لتعريتها وامتهان إنسانيتها؛ سواء عبر تسليعها فى الإعلان والإعلام، أو عبر استخدامها المسىء من خلال وسائل العنف والمال، عبر ثنائية الترغيب والترهيب.
خدمة كبيرة يقدمها الرجال المنخرطون فى المعركة على جسد المرأة فى مجتمعاتنا العربية والإسلامية لكل عدو أو خصم أو منافس؛ إذ يجدون فى تلك المعركة متنفساً سانحاً فى كل مرة، لكى يحققوا انتصارات زائفة.
لكن ما يجعل الأمر أكثر صعوبة بكل تأكيد، هو قبول بعض المجتمعات بهذه الإجراءات والسياسات، واعتبارها وسيلة لإظهار التقوى والورع، وباباً للخروج من الأزمات، بل وطريقة لتخفيف البلاء. عندما تسمع عن شيوع قضايا تخص جسد المرأة، أو مدى شرعية الحجاب والنقاب، أو الطريقة التى نحدد بها ما إذا كان الحجاب سيئاً أم منضبطاً، سيمكنك أن تدرك أن النظام السياسى الذى يفجر تلك القضايا يمر بأزمة حقيقية؛ وهى على الأرجح أزمة فى الشرعية السياسية، أو كفاءة الإدارة، أو شيوع الفساد، أو عدم القدرة على مقابلة توقعات الناس المعيشية.
تمر المجتمعات الإسلامية والعربية بأوقات صعبة، وتواجه تحديات سياسية واقتصادية وأمنية هائلة، وهى فى طريقها للاستجابة لتلك التحديات، لا يجب أن تصرف انتباه الناس عن الحقائق والأولويات، وتجرهم إلى معارك مصطنعة على عدد خصلات الشعر التى تظهر من رأس المرأة.