وسط حديقة المتحف المصرى بالتحرير يقف تمثال أوجست مارييت باشا أعلى تابوت رخامى بديع كان المستقر الأخير لجسد مارييت الذى دفن جثمانه فى حديقة المتحف المصرى باعتباره من الآباء المؤسسين لعلم المصريات، بل ولقّبه البعض بـ«أبو الآثار المصرية».
كانت الإسكندرية أول أرض مصرية تطأها قدما «مارييت»، فقد وصلها عام ١٨٥٠م وكان عمره آنذاك نحو ثلاثين عاماً، العجيب أن «مارييت» كان لا صلة له بعلم الآثار حتى جاوز الثامنة والعشرين من عمره.
وشاءت الأقدار أن يتم استدعاؤه لفحص وترتيب أوراق رسام فرنسى كان عضواً فى بعثة شامبليون الاستكشافية لمعابد مصر القديمة، عندما رأى «مارييت» الكتابات الهيروغليفية والنقوش المصرية القديمة هاله سحرها الآخاذ، ووجد نفسه يشرع فى تعلم اللغة المصرية القديمة ويتقنها ويعرف الكثير من أسرارها وصار يتحرق شوقاً لزيارة مصر.
وكان أن سنحت الفرصة بعد أن حصل على اعتماد مالى بقيمة ثلاثين ألف فرنك بغية التنقيب عن الآثار المصرية القديمة، وعندما وصل «مارييت» للأراضى المصرية وجد أن الأجواء مشحونة ضد الأجانب جراء ما اقترفوه من نهب وسلب لآثار وادى النيل، وعندما حصل «مارييت» على تصريح التنقيب كانت التعليمات واضحة أن كل ما سيتم العثور عليه ملك للدولة المصرية حصراً ولا يحق الاستيلاء عليه بأى حال.
حدّث «مارييت» نفسه قائلاً: كيف لى أن أنفق ثلاثين ألفاً من الفرنكات المصرية لاكتشاف الآثار وتركها للمصريين؟ أدرك «مارييت» أن الرشوة هى الباب المفتوح دوماً لنهب ثروات ومقدرات الأوطان، فنجح فى رشوة عدد من الضباط والملاحظين المعيّنين من طرف حكومة عباس حلمى لمراقبة أعمال الحفائر الجارية للتنقيب عن الآثار، ومن ثم شرع فى العمل بدون رقابة تُذكر أو أى منغصات، ووقع اختياره على منطقة سقارة الغنية بالآثار الثابتة والمنقولة وكل ما لا يمكن تصوره من روائع.
وكان قد سبق أن قرأ «مارييت» فى كتابات بعض الرحالة القدامى أن سقارة يوجد بها أنفاق عظيمة خصصت لدفن العجل المقدس أبيس، وأن تماثيل على هيئة أبى الهول تتقدم هذا الصرح الفريد، وبالفعل عندما ذهب «مارييت» لسقارة وجد أن هناك تمثالاً لأبى الهول يطل برأسه وقد غُمر وسط الرمال، وسرعان ما وجّه عماله للحفر شرق التمثال، فاكتشف أثراً رائعاً هو سرابيوم سقارة الذى يتكون من أنفاق طويلة تضم نحو أربعة وعشرين تابوتاً يتجاوز وزن الواحد منها العشرين طنا.
وقد نُحتت هذه التوابيت من حجارة صلدة للغاية من البازلت والجرانيت، دخل «مارييت» السرابيوم وسط مزيج من شعور الرهبة والانبهار، وقد هاله أن رأى آثار أقدام الكهنة الجنائزيين الذين غادروا السرابيوم لآخر مرة من زهاء أربعة آلاف عام قبل أن تنحسر الديانة المصرية القديمة، اقترب «مارييت» من التوابيت الضخمة ونهبها جميعاً بكل ما حوت من لوحات دينية وحُلىّ ومومياوات.
وفى جنح الظلام شرع فى تهريب هذه الآثار الفريدة لباريس على الرغم من أن امتياز الحفر الذى منحته له الحكومة المصرية يؤكد أن كل ما يكتشف ملك للحكومة المصرية، وبعدما نجح «مارييت» فى نهب محتويات السرابيوم دعا بعض موظفى الحكومة المصرية لتفقد الموقع خاوياً على عروشه إلا من الجدران والتوابيت الفارغة.
أما الكاتبة والرحالة الإنجليزية أميليا إدواردز فقد روت أن «مارييت» نجح فى شراء نحو أربعة عشر صندوقاً حفلوا بكل نادر وطريف من عجائب الآثار، ولأنه كان فى عجالة من أمره لدواعى السفر، أوعز لبعض البدو أن يحتفظوا بهذه الصناديق لحين تدبير أمر تهريبها لفرنسا، وكان أن وصل لمصر أرشيدوق نمساوى ثرى يبحث عن شراء كنز أثرى ثمين فكشف له أحد البدو كنز «مارييت» الدفين فاشتراه الدوق وعاد به لبلاده.
ولم يحرك «مارييت» ساكناً عند علمه بالخبر حتى لا يفتضح أمره كلص آثار محترف سرقه لصوص آخرون.كما نهب «مارييت» الآثار شنّ حرباً أخرى على العقول فقد عارض «مارييت» بشدة إنشاء مدرسة اللسان المصرى التى كانت مخصصة لتعليم الطلبة المصريين أصول وقواعد لغتهم المصرية القديمة حتى لا يبرز مصريون يحافظون على آثار وتراث بلادهم.
وسرعان ما أغلقت المدرسة بدعوى قلة المخصصات المالية بعد أن تخرج منها الأثرى المصرى النجيب أحمد كمال باشا صاحب أول قاموس هيروغليفى عربى.أمر بديهى أن يحتفى الفرنسيون بـ«مارييت» بعد ما أثرى متاحفهم بآثارنا المستباحة، أما نحن فقد آن الأوان أن نقرأ تاريخنا كما جرى، ليس كما يراد لنا أن نقرأ رواية غيرنا.