بصرف النظر عن الأوضاع شديدة التعقيد التي تعرفها سوريا منذ عام 2011، ورغم تحول هذا البلد، منذ ذلك الحين، إلى ساحة لغزوات وتدخّلات دول ومنظمات وميليشيات من كل اتجاه، فإن موقف القاهرة إزاء دمشق بدا، طوال الوقت، استراتيجياً ومبدئياً.
واليوم، تشهد سوريا جولة جديدة من الصدامات الطاحنة، ومحاولة شرسة لإعادة رسم خريطتها، فى ظل تراجع الجيش السورى النظامى من جهة، وتخلخل الجبهة الداعمة له، والممثّلة أساساً فى روسيا وإيران وبعض الميليشيات اللبنانية والعراقية من جهة أخرى.
وبينما تتعلق الأنظار بمحافظة حلب، ذات الأبعاد الحضارية والتاريخية والاستراتيجية المهمة، وبما إذا كان بوسع الفصائل المسلحة -التى تنتمى فى معظمها إلى جماعات ذات إسناد دينى، عُرفت سابقاً باتصالها المباشر بتنظيم «القاعدة»- احتلالها بالكامل، وفصلها عن الدولة السورية، فإن ردود الفعل الدولية والإقليمية لا تبدو واضحة حتى اللحظة، ربما فى انتظار معرفة اتجاه الريح، ومدى قدرة أىٍّ من الطرفين على الحسم.
ورغم ذلك الغموض والتردّد الواضحين، فإن مصر أظهرت اتساق سياساتها تجاه الجانب السورى كما كانت دائماً، إذ أجرى وزير الخارجية الدكتور بدر عبدالعاطى اتصالاً، مساء الجمعة الماضى، بنظيره السورى بسام صباغ، مؤكداً له فى هذا الاتصال موقف مصر الداعم للدولة السورية ومؤسساتها الوطنية، وأهمية دورها فى تحقيق الاستقرار ومكافحة الإرهاب، وبسط سيادتها واستقرارها ووحدة أراضيها.
صحيح أن الرئيس بشار الأسد لم يكن رئيساً ديمقراطياً فى يوم من الأيام، وكان الجميع يعلم أنه ورث السلطة عن والده، ضارباً عرض الحائط بمقتضيات الحكم الجمهورى، ولم تكن المعلومات غائبة بخصوص نهجه السلطوى، وأداء أجهزته الأمنية القمعى، وانتهاكه حريات مواطنيه.
ومع ذلك، فقد كانت مقتضيات المصلحة السياسية تقود بعض الدول إلى إقامة علاقات متوازنة، وأحياناً جيدة، مع النظام السورى، وهو الأمر الذى تغيّر بوضوح بعد اندلاع الانتفاضة فى سوريا فى 2011.
ورغم أن السياسة الخارجية المصرية لا تخلو من أخطاء بطبيعة الحال، كغيرها من البلدان، وهى كامتداد للسياسة الداخلية للبلاد، تأثّرت بالاختلالات العميقة والحادة التى وقعت منذ اندلاع انتفاضة 25 يناير 2011، فإن الموقف المصرى إزاء سوريا، وحكومتها، يبدو أحد أكثر المواقف اتساقاً وثباتاً والتزاماً فى آن.
فرغم أن مصر تُعد جزءاً من تحالف سياسى عربى محورى يضم عدداً من الدول العربية المعتدلة، فإنها اتّخذت موقفاً حيال سوريا مختلفاً، وربما دفعت أثماناً لهذا الاختلاف.
كانت ثوابت مصر إزاء الأحداث فى سوريا واضحة، فهى رفضت المساس بالسيادة الوطنية، وعارضت شنّ العدوان، ودعت إلى صيانة التماسك الإقليمى والوحدة الترابية للبلاد، كما هاجمت أعمال العنف، واستهداف المدنيين، وأنشطة الميليشيات، ودعت إلى مواجهة التحدى الإرهابى الذى أخذ يترعرع بموازاة تضعضع سلطة الدولة.
تدرك مصر أن اتهامات مُعتبرة توجّه إلى النظام السورى باستخدام أساليب قمعية مخالفة لمعايير حقوق الإنسان، وأنه يحكم بطريقة شمولية، وأنه ربما تورط فى ارتكاب «جرائم» ضد شعبه، لكنها مع ذلك أدركت أن تكاليف إطاحة مثل هذا النظام من دون ترتيب لأوضاع سياسية مستقبلية مستقرة، أو قابلة للاستقرار، أكبر وأخطر وأفدح أثراً.
تربط مصر بسوريا علاقة نادرة وخاصة، إذ سبق أن كان البلدان دولة واحدة، حين تحقّقت الوحدة فى عام 1958.
صحيح أن الوحدة لم تستمر، وأنها كشفت عن أخطاء جوهرية وقصور بنيوى فى الفكر السياسى العربى والتجربة الناصرية الآسرة والنافذة آنذاك، لكن مع ذلك، ظل هناك ما يُرسّخ اعتقاد الأطر الفاعلة فى سياسة البلدين بأن ما يجمعهما كثير.
قاتلت سوريا إلى جانب مصر فى حرب أكتوبر 1973، كما حدث مرات كثيرة على مر التاريخ، لذلك، فإن الاعتقاد السائد بأن الأمن القومى لمصر يبدأ من سوريا يجد له سنداً واضحاً فى التاريخين المعاصر والبعيد.
لقد ارتكب النظام السورى أخطاءً كبرى، خصوصاً عندما فتح المجال لإيران لكى تُعزّز نفوذها فى المجال العربى من خلاله، وحينما أحجم عن إجراء إصلاحات ضرورية لإعادة الاستقرار للدولة، وقطع الطريق على محاولات النيل من وحدتها وسيادتها وتقطيع أوصالها.
ورغم الإقرار بضرورة رفض فكرة أن يكون بشار الأسد جسراً تعبر عليه إيران لكى تستبيح الأمن القومى العربى، وتُهدّد المصالح الحيوية العربية، فإن حرمان إيران من مزايا تحالفها مع الأسد يجب ألا يكون ثمنه سوريا وشعبها ومعهما ما سيترتب على التفريط فيهما من تهديدات جوهرية للأمن القومى العربى.
ولأن مصر لم تتورط فى تأجيج أى استهداف ضد حكومة بشار الأسد، ولم تُغير موقفها الداعم لوحدة الدولة السورية وسلامة أراضيها، فإن بوسعها، إذا حصلت على تأييد حلفائها العرب، أن تؤدى دوراً فى وقف القتل والدمار وتحلل الدولة، وبناء مسار لتفاوض جاد، يمكن أن يُفضى إلى «حل وسط»، يُحقّق قدراً من المصالح المتوازنة للأطراف المنخرطة فى الصراع، من دون التورّط فى المزيد من الخسائر التى لن يمكن تعويضها لاحقاً.
إن ترك سوريا وحدها لمواجهة مصيرها أمام تقدّم الفصائل المسلحة، ذات الإسناد الدينى والمنحى التكفيرى والاستتباع لمصالح إقليمية ودولية مشبوهة، أمر مُكلف وشديد الخطورة، وسيكون بإمكان مصر أن تؤدى دوراً فاعلاً فى الحد من تلك المخاطر، للحفاظ على ما تبقى من الدولة السورية.