ماذا لو أنّ ثمة شخصا يقف داخل شرفتك، يتسلل إلى داخل بيتك حين لا تكون هناك، لا يريد مالك، ولكنه يريد أسرارك، أدقها على وجه التحديد؟ ماذا لو طالعت جريدتك المفضلة لتجد كل الكوارث الشخصية التي حرصت على إخفائها بجد قد صارت مشاعا.. حين يصير الخاص عاما، والمستور مفضوحا، بفضل شخص واحد هو «زائر النافذة»؟!
كنت قد توقفت قبل وقت طويل عن حضور الندوات الثقافية لأسباب شخصية، ولكنني ولحسن حظي تمكنت من حضور واحدة قبل أسابيع، تمت خلالها مناقشة رواية «زائر النافذة» وهي الرواية الأولى لكاتبتها مي فتحي، والصادرة عن دار نيسان للنشر والتوزيع، وقد استوقفتني تلك الإجابة التي قالتها الكاتبة حين سألها أحدهم عن السر وراء فكرة الرواية، فأجابته: «خطرت لي حين كنت أسير في الشوارع، أتأمل النوافذ وأتساءل، ماذا لو تمكن أحدهم من التسلق، والتلصص، والتعرف على ما يجري هناك خلف كل تلك الستائر المنسدلة؟ استفزتني الفكرة بدوري، وشعرت أن الأمر بالفعل يستحق إجابة.. ماذا لو؟!».
بدأت قراءة الرواية مع توقعات عالية، وجاءت البداية مبشرة جدا، أو بالأحرى خاطفة، بجملة تأخذك إلى السطور التالية دون جهد: «أدخل البيت كما اعتدت دائما من النافذة، لا أتوتر أبدا ولا أشعر بأنّ عليّ الإسراع لإنجاز مهمتي، لأننى لا أعتبر نفسي لصا عاديا، لا أعتبر نفسي لصا أصلا»، لم أشعر بملل يُذكر وأنا شخص ملول للغاية، أجهزت عليها في عدة ساعات وكنت أركض خلف السطور، مع زائر النافذة، من حكاية لأخرى أتلصص بصحبته، وأسترق السمع والنظر لبلاوي الآخرين.
«لقد كان الاستماع للآخرين في الحقيقة لعنة في حد ذاته، عند لحظة معينة تدرك أنك لا تستمع لشيء جديد، الجميع يتصرف بمثالية، الجميع على حق، الجميع يعلم ما يريده، وماذا يفعل، والجميع متيقن تمام اليقين أنّ الآخرين هم الجحيم».
لعل المدهش في تلك الرواية أنّ بطلها حين أراد التلصص، على الجميع، وجد نفسه من دون قصد يتلصص على نفسه أيضا، يقول: «بدأتُ أول ما بدأت بغرفة أمي، فقد كانت مخبأ السر الأكبر الذي هزّ حياتي، وأفقدني توازنها، جعلني أتساءل عن جدوى كل ما سمعته يوما».
«دوما كنت أجد متعة لا تضاهى وأنا أفتش بين أغراض أمي»، تموت والدة البطل بطريقة عادية، ويجد نفسه مجبرا على التفتيش في أغراضها بالفعل، لكن ما سوف يكتشفه هو لاحقا غير عادي بالمرة، هكذا تخبرك الكاتبة عبر سطور روايتها الشيّقة أنّه في بعض الأحيان يمكن للحقائق المجردة أن تقتلنا كلما نظرنا لها وتأملناها مرة بعد أخرى، فنجدنا عاجزين عن الفهم والاستيعاب، عن القوة المرعبة للقصص المخفية ونصلها الحاد الذي يذبحنا معنويا تارة، وماديا تارة أخرى، الكل يبحث عن الحقيقة، لكن من بإمكانه احتمالها؟
تلك رواية عن «المستور» حين لا يعود كذلك، وعن المشاعر الطيبة حين تتحول إلى أخرى قاسية وشريرة جدا، وبين حكاية البطل وحكايات الناس الذين يتلصص عليهم، تجدك تلهث بين الصفحات لتفهم ما يجرى وتتعرف بشكل أدق على الناس عن قرب، فتفزعك التفاصيل.
«ألا تنطوي أي معركة على احتمال الانسحاب منها؟ إذن لمَ لا أستطيع أنا إنهاء معركتي هذه بالانسحاب؟»، تتساءل الكاتبة على لسان أحد أبطال روايتها وأتساءل معها أيضا عن كل تلك المعارك التي نجد أنفسنا فجأة في خضمها دون طاقة للمواصلة أو قدرة على الانسحاب.
أرشح الرواية لمن يرغب في تجربة مختلفة في القراءة، وأستعير في النهاية من سطورها: «لا أستطيع الاعتماد على خيالي في كل شيء، ألم يتوقف هذا الخيال لأعوام، وحرمني من مواصلة الكتابة، حتى اكتشفت قصتي الحقيقية، واكتشفت معها أنّ القصص الحقيقية للجميع هي التي لا تُروى ولا تتخطى حواجز الجدران، فكان لزاما عليّ أن أقتحمها أنا».