للقناة -أو «القنال»، كما يطلق عليها أهل المنطقة- مكانة خاصة فى نفسى، فقد نشأت وقضيت وارتبطت بها لفترة كبيرة فى حياتى حينما كان والدى يعمل بها.. وشاهدتها وهى معطلة بعد حرب أكتوبر، ثم أثناء تطهيرها وبعد إعادة فتحها للملاحة. وكانت فرحة كبيرة، فالقناة هى أساس الحياة فى هذه المنطقة.
وأهم ما يعنيه افتتاح القناة الجديدة أن المصريين عادت لهم ثقتهم فى قدرتهم على تحقيق الإنجاز سواء بالتمويل أو بالتنفيذ.. فهذه القناة ستظل شاهداً على قدرة نموذجية لهذا الشعب على تحقيق الأهداف ولكن فقط بالثقة فى القيادة وهو أصعب ما فى الأمر.
والحقيقة أن الشعب المصرى تعرض لضغوط جبارة شارك الإعلام فيها على مدى سنوات طوال فى إفقاده ثقته بنفسه وبقياداته، ولكن مع تكرار الصدمات عادت له الثقة وشعر أن القناة الجديدة هى الدليل الذى سيظل صامداً عبر التاريخ للتدليل على قدرته، تماماً كما حدث حينما أصر الشعب المصرى على بناء السد العالى، وكما حدث عند تحقيق العبور العظيم فى أكتوبر 1973.
كما يحوى افتتاح القناة الجديدة العديد من الرسائل المهمة على المستوى السياسى، فالقناة الجديدة هى شريان جديد شيده المصريون بأموالهم وداخل أرضهم لزيادة حركة الملاحة العالمية، وهذا يعنى مزيداً من ارتباط المصالح المصرية بالمصالح الدولية، فمصر الآن زادت قيمتها كمعبر للتجارة بين الشرق والغرب.
وعلى جانب آخر، فإن الحديث عن محاولات شق قناة بديلة لقناة السويس أصبح مستحيلاً.. فعلى مدى سنوات مضت كنا نسمع عن مشروعات لنقل البضائع بين ميناءى إيلات وحيفا كبديل للقناة أو مشروع قناة جديدة فى البحر الميت.. وهذه المشروعات كلها أصبحت عدماً لأن القدرة على المنافسة مع قناة السويس الآن باتجاهيها أصبحت معدومة.
أما على المستوى الاقتصادى، فإن القناة الجديدة تخفض زمن عبور السفن بين البحرين المتوسط والأحمر من 14 ساعة إلى أقل من 11 ساعة، أى أن القناة الجديدة سوف تؤدى لتقليل زمن العبور وزمن انتظار السفن لمرور القوافل. وهذا يعنى أن تدفق عبور السفن سوف يزيد.. أى إن الطاقة الاستيعابية للقناة سوف تزيد أيضاً، وهذا سوف يؤدى لاجتذاب المزيد من حركة الملاحة العالمية، وسوف يؤدى أيضاً لزيادة التدفقات المالية من رسوم العبور. وهذا كمرحلة أولى فقط عقب افتتاح القناة. ولكن الفائدة الاقتصادية الأكبر سوف تكون عقب إنشاء مناطق الخدمات والمناطق الاقتصادية المخططة على جانبى القناة، وفى هذه الحالة سوف ترتفع العائدات عدة أضعاف.
وهنا ينبغى التأكيد أمام الرأى العام أن شق القناة الجديدة هو إنجاز كبير فى حد ذاته، فلم يكن هناك من تصور أن المصريين سوف يحفرون قناة جديدة طولها 35 كيلومتراً تجعل منها أول قناة مزدوجه فى العالم خلال عام واحد، وقد كان مخططاً له 3 سنوات. ولكن المصريين نجحوا، ونالوا إعجاب العالم أجمع، بدليل أن صحفاً دولية كبيرة كانت تتخذ مواقف مناهضة لمصر أشادت بهذا الإنجاز خلال الأسابيع الأخيرة.. فالمصالح هى أساس العلاقات بين الدول. ولا تزال هناك مصالح كثيرة يمكن أن تترتب إذا اهتممنا بالاستثمار المقبل على جانب القناة، وهذا يحتاج لمناخ استثمار مختلف عما هو عليه الآن. فهذه المناطق الخدمية والصناعية الجديدة سوف تخلق فرص عمل كبيرة، ويجب دعمها بشتى الطرق، وأهمها أن يكون المناخ المالى والاقتصادى والتشريعى مستقراً إلى أقصى حد ممكن.
والتحدى المقبل أكبر بكثير من مجرد شق القناة -ومن المهم جداً أن نحافظ على الروح نفسها التى ظهرت فى الحفر حينما نبدأ فى المشروعات الخدمية والاقتصادية المقبلة. والعالم الآن ينتظر منا الإنجاز فى هذا الاتجاه أكبر، وزادت ثقته فى المصريين أكثر.
إذن فافتتاح القناة ليس نهاية المطاف، ولكنه نقطة انطلاق أساسية علينا استثمارها وتسويقها. وليس هدفاً فى حد ذاته ولكنه محطة مهمة فى سلسلة أهداف مقبلة إن شاء الله.
سعيد بافتتاح القناة الجديدة، وسعيد أكثر بفرحة المصريين الواضحة بها، وسوف نشعر بأهميتها أكثر وأكثر كلما سارعنا فى تعظيم قيمتها الاقتصادية.