ذكرنى مشهد الجدارية التى صُنعت بمناسبة افتتاح قناة السويس الجديدة، والتى يوجد عليها صور للرؤساء: عبدالناصر، السادات، السيسى -دون ذكر لمبارك- بالأفلام القديمة التى صنعت قبل قيام ثورة 1952 عندما كانت تعرض على شاشة التليفزيون، فتشاهد بقعة سوداء تتحرك على الشاشة لتغطى جزءاً معيناً اكتشفت فيما بعد أنها صورة الملك فاروق الذى كان ممنوعاً ذكر اسمه أو صورته فى أى من وسائل الإعلام.
وعندما كانت تذاع رائعة محمد عبدالوهاب «الفن» فى الإذاعة من تأليف صالح جودت، كان يذاع الكوبليه الأول فقط، وكنت أعتقد أنها تتكون من كوبليه واحد، واكتشفت فيما بعد أنها تتكون من ثلاثة كوبليهات إلا أن الاثنين الأخيرين كانا يشيدان بالفاروق كراعٍ للفن والفنانين.
وعندما كنا ندرس التاريخ، ونحن تلاميذ كانت كل الكتب تقول إن أول رئيس للجمهورية بعد إلغاء الملكية هو جمال عبدالناصر دون أى ذكر لمحمد نجيب الذى لم نعرف أى شىء عنه إلا بعد وفاة عبدالناصر وتولى أنور السادات مسئولية الحكم، وأدركت بعد ذلك أنها عادة فرعونية تلازمنا منذ عهد الفراعنة عندما كانت حاشية الملك أو الملكة تمحو اسم الحاكم السابق من على جدران المعابد والمسلات، وتضع اسم الحاكم الجديد وتنسب له كل إنجازات الحاكم الذى سبقه تقرباً وزلفى منه، وعرفت بعد ذلك القول المأثور: إن التاريخ يكتبه المنتصرون الذين يستطيعون محو ما يدينهم، وتثبيت ما يفخرون به.
والحقيقة أن سبب كتابة هذا المقال ليس لأننى من أنصار الرئيس السابق مبارك، ففى رأيى أن مبارك لو كان قد رحل بعد حادث أديس أبابا بعد أن يغير الدستور ويضع نظاماً ديمقراطياً لتداول السلطة بشكل سلمى، لدخل التاريخ من أوسع أبوابه، ولكنه مع الأسف استسلم لرغبات زوجته الجامحة فى توريث السلطة لابنها جمال، ومن أجل هذا -ولأنه يعلم رفض المؤسسة العسكرية لهذا الطرح- فقد حاول تثبيت دعائم التوريث لابنه عن طريق خلق قوة اقتصادية تكون داعمة له، وعن طريق تزوير الانتخابات تدخل هذه القوى مجلس الشعب وتصبح أغلبية تخدم مصالحها ومصالح من أتى بها، وهكذا تم تقنين الفساد من خلال تفصيل القوانين المعيبة التى يصبح القضاء مجبراً على الحكم بها ليلبس الباطل ثوب الحق، وييأس المواطن من يومه وغده، وأعتقد أن هذه هى الشرارة الأولى التى أشعلت الثورة.
أما عن الرئيس المعزول مرسى، فالكل يعلم مدى كراهيتى لجماعة الإخوان الفاشية والنفعية، والتى جعلتنا ننزل جميعاً إلى الشوارع مستغيثين بجيش مصر الباسل وبالرئيس السيسى، لكى يخلصنا من هذه العصابة التى حكمتنا فى غفلة من الزمن، وقد كان الرجل عند حسن الظن به ولبى النداء، إذن فليس هناك داعٍ للمزايدة على موقفى حتى لا يتم تأويل ما أكتب، وتحميله معانى لم أقصدها.
إن ما أقصده هو أن نكتب التاريخ بحقائقه وليس كما نهوى ونحب، فكراهية البعض لمبارك لن تمحو ثلاثين عاماً من تاريخ مصر بكل ما فيه من حسنات ومساوئ، وكراهية المعظم لمرسى لن تمحو أنه ظل رئيساً للجمهورية لمدة عام حتى لو حكم عليه القضاء بالإعدام بتهمة الخيانة العظمى.
وأخيراً أتمنى أن يكون حبنا لمن نحب حباً وسطياً، فالذى يحب بتطرف، يكره أيضاً بتطرف، وأن يكون حبنا لمن نحب حباً عاقلاً يقوم بالخطأ ويشير إليه، ويقوم بالصواب ويصفق له، وكما قال الحسن البصرى: أحبوا هوناً وأبغضوا هوناً فقد أفرط قوم فى حب قوم فهلكوا، وأفرط قوم فى بغض قوم فهلكوا، وفى الحديث الشريف: أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما، وقال عمر، رضى الله عنه،: لا يكن حبك كلفاً ولا يكن بغضك تلفاً، قيل: وكيف ذاك؟ قال: إذا أحببت.. كَلِفْتَ كلـف الصبى، وإذا أبَغضت.. أحببَتَ لصاحبك التِّلف.