كنت أعتقد، مع الغالبية العظمى من المصريين، أن الرئيس والحكومة مستغرقون فى إنجاز الحلم المصرى بحفر قناة السويس الجديدة ومراسم افتتاحها باعتبار أن ذلك الحدث هو الأهم والأخطر فى التاريخ المصرى الحديث، لكنى اكتشفت خطأ اعتقادى عندما طالعت قرارين مهمين صدرا فى خضم تلك الأحداث، صدر القرار الأول فى غضون مايو الماضى من الرئيس عبدالفتاح السيسى بتكليف هيئة الرقابة الإدارية بالقيام بتحقيق الرقابة الوقائية من الفساد وبحث المشكلات التى تواجه المستثمرين، وأسند للواء محمد عرفان جمال الدين رئيس الهيئة ضرورة العمل على التواصل مع المستثمرين وأصحاب الأعمال والشركات لبحث كل معوقات ومشاكل الاستثمار فى مصر، وعلى الفور قام سيادته بإنشاء إدارة متخصصة لتنفيذ هذه التكليفات وفتح قنوات اتصال بين المستثمرين وجميع أجهزة الدولة وهيئاتها المختلفة لدفع عجلة التنمية واقتراح الحلول والوسائل المناسبة لدعم الاستثمار للارتقاء بمستوى معيشة المواطن المصرى وتوفير فرص عمل مناسبة فى تلك المجالات، القرار الثانى صدر عن المهندس إبراهيم محلب رئيس الوزراء فى غضون الشهر ذاته برقم 1288 لسنة 2015، وتضمن تعديل مسمى «اللجنة الوطنية التنسيقية لمكافحة الفساد» لتصبح «اللجنة الوطنية التنسيقية للوقاية من الفساد ومكافحته».
إن صدور هذين القرارين فى توقيت متزامن وفى فترة الجميع فيها مهتم ومشغول بالحدث الأكبر، الخاص بافتتاح القناة، يعكس رغبة أكيدة لدى النظام الحاكم على الوقاية من الفساد دون الانتظار لوقوعه ثم ضبطه، ويعكس أيضاً توجهاً جديداً يحمل رؤية مستقبلية مضمونها الاهتمام بالمال الخاص وحمايته جنباً إلى جنب المال العام، كون الاثنين يمثلان رافدى الاقتصاد المصرى ولا غنى لأحدهما عن الآخر، ومن دونهما تتعثر خطط التنمية والاستثمار، وينبئ أيضاً عن فكر صائب لدى مصدر القرار مفاده أن المال الخاص والحفاظ عليه وحمايته يمثل أهمية قصوى لا تنفك عن حماية المال العام، ومن حسن الطالع أن يسند تنفيذ القرارين إلى أهم وأخطر جهاز رقابى فى مصر ظل طوال أكثر من خمسين عاماً يعمل بمنظور حماية المال العام وفقط، مارس خلالها كل الصلاحيات الموكلة إليه فى التحرى والكشف عن جرائم الفساد واستغلال النفوذ وضبطها وإحالة المتهمين إلى جهات التحقيق المختصة، وخلال السنوات الماضية أصبح لدى الهيئة الإمكانيات البشرية والمعلوماتية والمالية والفنية التى أعانتها على مباشرة اختصاصاتها بشكل مؤثر وفعال وهو الأمر الذى سيحقق لها النجاح فى مهمتها المقبلة التى لا تقل أهمية عن الدور الأصلى الذى تمارسه بحرفية شديدة.
وكانت سعادتى شديدة عندما لمست قيام الهيئة بتنفيذ هذه التكليفات على وجه السرعة، إذ تلقت بلاغ إحدى الشركات الخاصة ضد مصلحة الجمارك التى تضررت فيها من تعسف تلك الجهة مع الشركة وحصلت منها على مبالغ دون وجه حق وبعد إجراء التحقيقات اللازمة لدى الهيئة التى استبان منها حق الشركة الخاصة فى استرداد المبالغ التى سددتها بغير سند من القانون أعادت إليها تلك المبالغ وانتصرت للمال الخاص على المال العام طالما أن ذلك هو الحق.
ولأن تلك الشركة من كبرى الشركات العالمية فقد استطاعت نشر تلك المنازعة فى الإعلام الغربى مما كان له أبلغ الأثر فى خلق روح الثقة فى الأجهزة الرقابية المصرية وتركت لدى المستثمر الأجنبى انطباعاً بأن ما يقال بحق تلك الأجهزة غير صحيح ويجافى الحقيقة الأمر الذى سيكون له الدور المؤثر فى طمأنة المستثمر العربى والأجنبى ودفعه للاستثمار فى مصر.
لا يخفى على العاملين فى الاستثمار أن رأس المال جبان ولا وجود له فى ظل أنظمة أو أجهزة أو قوانين استثنائية أو غير نافذة ويظل صاحب رأس المال عازفاً عن الاستثمار فى البلدان التى تتغول فيها الأجهزة الرقابية على رجال الأعمال والمستثمرين، لهذا فإن الاتجاه الجديد لهيئة الرقابة الإدارية واهتمامها بشكاوى المستثمرين والعمل على حلها إن كان لها سند وإزالة المعوقات أمام الشركات الجادة والراغبة فى ذلك إنما يعد تطوراً محموداً ويضع الهيئة أمام مسئوليتها فى خلق مناخ حاضن ومشجع للاستثمار فى مصر ويشجع الجميع على إقامة المشروعات التنموية والاقتصادية التى تقدم الدعم للاقتصاد المصرى، كما أنه يُزيل من عقل وفكر المستثمر الجاد شبح الملاحقات الأمنية، واعتقاده الخاطئ بتغول الأجهزة الرقابية عليه وعلى شركاته.
ولا شك أن ذلك الاتجاه المحمود قد جاء فى ظل توجه قائم لدى العالم كله بأن للمال الخاص حرمته وضرورة حمايته من تغول السلطة التنفيذية عليه، وقد تحدى الرئيس عبدالفتاح السيسى الجميع عندما لجأ إلى الشعب صاحب المال الخاص فى طلب المساهمة والاكتتاب فى حفر قناة السويس الجديدة، وبالفعل جمعت مصر 64 مليار جنيه فى ثمانية أيام من أيادى ومدخرات الأفراد عندما استشعر المصريون أن رئيسهم محل لثقتهم وقادر على تنفيذ طموحاتهم وأهدافهم فسارعوا إلى تقديم ما لديهم من مدخرات دون رهبة أو خوف، وكان الرئيس على قدر تلك المسئولية وأنجز الحلم فى عام واحد دون إسراف أو تهاون أو تباطؤ.
وعلى هذا الدرب واستكمالاً للمنظومة فقد جاء قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1288 لسنة 2015 مكملاً لما بدأه الرئيس ومتمماً ومعيناً له على تحقيقه خاصة أننا جميعاً نوقن أن الوقاية مقدمة على العلاج كما لا يغيب عن الجميع أن إنفاذ ذلك القرار واضطلاع الهيئة بمسئوليتها فى هذا المجال وتبنيها رسالة نشر الوعى بالآثار السلبية للفساد وضرورة الحد والوقاية منه ويعكس إيمان الإرادة السياسية بضرورة الوقاية من الفساد قبل وقوعه وذلك بخلق إجراءات وقائية وتدابير احترازية للحد من الفساد والوقاية منه والتدخل المبكر لدراسة أسباب الفساد وطرق معالجتها وحصر فرص وقوعها لمنعها والحد منها.
الأمل معقود فى تلك اللجنة على إزالة التنافس والتناحر الذى كان ينتاب البعض من العاملين فى تلك الأجهزة، وخلق روح التعاون والتناغم بين الأجهزة الرقابية المنوط بها مكافحة الفساد خاصة أنها تضم، وفق تشكيلها، كل الأجهزة الرقابية فى مصر، وقد تجلى ذلك فيما اتخذ من إجراءات كان أخصها تطبيق نموذج «الشباك الواحد» بالهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة وكذلك ما ظهر جلياً من توجهات تلك اللجنة بتبنى سياسات المنع والوقاية من الفساد والتدخل لتدارك الأخطاء والمخالفات قبل وقوعها وتنفيذ مشروعات نموذجية لميكنة بعض الجهات المؤثرة فى قطاعات الدولة المختلفة.
لا شك أن الفساد ظاهرة اجتماعية قديمة وتنتشر بين الأمم كالنار فى الهشيم وأن محاربته مسئولية اجتماعية يناط بالجميع القيام بها والحد من آثارها التى يتحمل المجتمع تكلفتها الباهظة خاصة أن الجميع يوقن بأن الفساد يهدم كل خطط التنمية ويقوض الديمقراطية، ويقلص مجال إنفاذ القانون وتطبيقه، ولا شك أن هيئة الرقابة الإدارية وكذا اللجنة الوطنية التنسيقية للوقاية من الفساد ومكافحته منوط بهما فى الفترة المقبلة القيام بمجهود جبار للحد من ظاهرة الفساد المنتشرة داخل قطاعات عديدة بمؤسسات الدولة والوقاية منه ووضع الخطط والطرق والسبل اللازمة لنجاح المهمة بالإضافة إلى حماية المال العام والخاص دون تفرقة.
لا شك أن النجاح والتفوق يفرض على صاحبه مواصلة التمسك بأسباب وتلابيب ذلك النجاح ومواصلة التفوق والتقدم ولذا فإن نجاحنا فى إتمام معجزة قناة السويس الجديدة يتطلب منا جميعاً مواصلة المسيرة بالهمة ذاتها والإرادة نفسها.
وللحديث بقية ما دام فى العمر بقية...