بهذه المقالة نختتم رحلتنا مع برلمان الخديوى إسماعيل الذى بدأ وهمياً (شكل بلا مضمون)، ثم بدأ نوابه يفعّلونه على استحياء، إلى أن طالب النواب فى أواخر عهده بحضور وزير المالية (الإنجليزى الجنسية!) لمناقشته فى الأوضاع المالية فلم يكترث ورفض المثول أمام البرلمان فقرر المجلس مناقشة الموضوع فى غيبة الوزير، وهو ما لم يسمح به الغرب. وتسارعت الأمور بعدها وعزل الأوروبيون إسماعيل ونصبوا ابنه توفيق مكانه. ومع أحداث الثورة العرابية كان مجلس النواب على رأس مطالب الأمة.. فعندما وقف عرابى وقفته المشهورة أمام الخديوى فى ساحة قصر عابدين قال: «جئنا يا مولاى لنعرض عليك طلبات الجيش والأمة.. وكلها طلبات عادلة»، فقال توفيق: «وما هى هذه الطلبات؟» أجابه: «هى عزل رياض باشا وتشكيل مجلس النواب وإبلاغ عدد الجيش إلى العدد المعين فى الفرمانات السلطانية»، وهو ما رفضه الخديوى، إلا أن الشعب فرضها بثورته فيما بعد. ويلاحظ أن مجرد طلب إنشاء مجلس للنواب يعنى ضمنياً ألا أحد تعامل مع مجلس شورى النواب الذى أنشأه إسماعيل على أنه برلمان حقيقى. وفى 4 أكتوبر 1881 رفع شريف باشا (رئيس الوزراء) تقريراً إلى الخديوى بإجابة مطلب الأمة فى صدد إنشاء مجلس النواب لإقامة نظام دستورى، وطلب تمهيداً لتأليف المجلس النيابى الجديد إجراء انتخابات عامة طبقاً للائحة مجلس شورى النواب القديم، على أن تعرض الوزارة على المجلس المنتخب مشروع اللائحة الأساسية التى تكفل نهوضه إلى مستوى المجالس النيابية الحقيقية، أو بعبارة أخرى دعا إلى انتخاب حقيقى لمجلس شورى النواب ليكون بمثابة (جمعية تأسيسية) تضع الدستور الجديد.. وفى نفس اليوم، وتحت ضغط الثورة، صدر الأمر العالى بإجراء الانتخابات على أن يُفتتح مجلس النواب قبل مرور شهرين ونصف. وكانت هذه أول انتخابات حرة فى مصر (لم تتكرر كثيراً فيما بعد)، إذ حرص شريف باشا على ابتعاد الحكومة كلياً عن التأثير على العمد والمشايخ فيمن يختارونهم، وأصدر منشوراً بذلك إلى جميع المديريات.. لكن الأهم أن العرابيين كانوا أكثر حرصاً على حرية الانتخابات، فرغم أنهم أصحاب الفضل فى إنشاء المجلس فإنهم لم يُملوا إرادتهم ولم يرشحوا أشياعهم وأتباعهم لكى يضمنوا أن تأتى غالبية المجلس منهم (ولم يدعوا إلى قائمة موحدة!!).
وما إن افتُتح البرلمان فى 26 ديسمبر 1881 حتى بدأت الحكومة فى وضع الدستور لعرضه على مجلس النواب (الجمعية التأسيسية) وكان يسمى بلغة العصر آنذاك «اللائحة الأساسية» أو «القانون الأساسى».. وقد تضمن مشروع الدستور عدداً من القواعد العصرية للنظم البرلمانية كتقرير مبدأ المسئولية الوزارية أمام مجلس النواب، وتخويل المجلس حق تقرير القوانين بحيث لا تصدر إلا بتصديق منه، وتقرير الميزانية، والرقابة على أعمال الحكومة وموظفيها، وإلزامها بعدم فرض أى ضريبة أو إصدار أى قانون أو لائحة إلا بعد تصديق المجلس.. وفى 2 يناير 1882 عرضت الحكومة مشروع الدستور على مجلس النواب الذى أحاله إلى «اللجنة الدستورية» للنظر فيه، وأقرت اللجنة مواد الدستور مع تعديلات طفيفة. وهنا استشعرت إنجلترا وفرنسا خطورة أن يقام فى مصر نظام دستورى وبرلمان حقيقى، وقبل أن يصدر المرسوم الدستورى توجه مندوبا إنجلترا وفرنسا بمذكرة إلى الخديوى توفيق يعربان فيها عن عدم رضاهما عن عدد من الحوادث التى توجب تدخلهما ومن بينها صراحة «صدور الأمر الخديوى باجتماع مجلس النواب»، ثم طلبا «ألا يخول مجلس النواب حق تقرير الميزانية».. وكان ذلك مقدمة لاحتلال عسكرى سافر استمر سبعين عاماً.. وما زالت مصر من يومها تقاتل من أجل تحقيق حلمها المشروع.. تنجح أحياناً وتفشل أحياناً.