أتفهم جيداً أسباب صدور قرار محافظ البنك المركزى منذ شهور بتحديد التداول على العملة الأجنبية فى البنوك داخل مصر. فربما كان الهدف الأساسى هو منع تمويل الجماعات الإرهابية الذى كان مرصوداً بشكل واضح قبل هذا التاريخ. كما أن وجود سعرين للعملة الأجنبية أحدهما بالبنوك وآخر أعلى منه قليلاً فى شركات الصرافة كان أحد السلبيات التى يراها رجال الأعمال خطراً على استثماراتهم ويمنع توافد المستثمرين الأجانب. من هنا جاءت فكرة تحديد رقم السحب أو الإيداع للعملة الأجنبية بسقف لا يزيد على 10 آلاف دولار يومياً بحد أقصى 50 ألف دولار شهرياً.
لكن الحقيقة أن هذا القرار الذى صدر رغم نجاحه فى تجفيف التمويل الأجنبى للإرهاب، فإنه تسبب فى تجفيف الاستثمارات أيضاً.. فالمستثمر الأجنبى الذى لا تكف الدولة عن التصريح بأنها تحاول جذبه للسوق المصرية لا يمكن أبداً أن يفكر فى دخول السوق المصرية وهو يرى القوانين تتغير بين يوم وآخر، وفى ظل القرار الأخير لمحافظ البنك المركزى لم يعد هذا المستثمر قادراً على إخراج أرباحه خارج مصر إلا بعد إجراءات تستغرق عدة أشهر.. وقد عايشت تجارب عملية لهذا الأمر.
ومن المؤكد أن القرار لم ينجح فى تثبيت سعر الصرف، فقد ارتفع سعر الدولار رغم القيود ما يقرب من 80 قرشاً، وأصبح عمل شركات الصرافة يكاد يكون سرياً وللمعارف من رجال الأعمال أو ممن يحتاجون العملة بشكل دائم وتعرفهم شركات الصرافة، وهذا جعل للدولار سعراً يتجاوز 8 جنيهات فى كثير من الأحيان فى هذه الشركات.
أما بالنسبة للمواطن المصرى الذى تمكن من توفير بعض مدخراته بالدولار فقد أصبح هو أيضاً محاصراً بهذا القرار الذى يحتاج إعادة نظر.. فما من مرة أتوجه فيها للبنك الحكومى الذى أتعامل معه إلا وأجد حالة تذمر من المواطنين بسبب هذا القرار. ولا يوجد فى العالم ما يمنع مواطناً من أن يسترد أمواله من البنوك بأى عملة ما دامت أنها أمواله الشخصية.. فليس معقولاً أن ترفض البنوك صرف أكثر من 10 آلاف دولار لمواطن يضع عشرات الآلاف من الدولارات فى حسابه بالبنك. والأمر حتى مع تحديد السقف يحتاج موافقات من مستويات إدارية مختلفة من البنك وإذا نجح فى صرفها وهى أمواله يتم صرفها فئة العشرين دولاراً والسبب هو منع التهريب حسبما يقال لهم!!
إذا كنا نبحث عن استقرار اقتصادى وجذب استثمارات فلا بد من إعادة النظر فى هذا القرار فوراً.. فالأصل فى الاقتصاد هو الثقة.. ولم يشهد الاقتصاد المصرى حالة عدم ثقة فى البنوك مثلما حدث فى أعقاب 28 يناير 2011 حينما نهبت ماكينات الصرف الآلى ولم تعد الشرطة موجودة بالشوارع وسادت البلطجة.
وكان الدكتور فاروق العقدة محافظاً للبنك المركزى آنذاك، واستدعاه الرئيس الأسبق حسنى مبارك رغم الظروف المحيطة لبحث الأزمة، وتم الاتفاق على ضخ كميات ضخمة من المبالغ المالية للبنوك فى وقت واحد حتى تستطيع البنوك تلبية احتياجات عملائها الذين شعروا بعدم الثقة من الظروف التى أصابت الدولة وقتذاك. وفى اليوم الأول تم سحب 5 مليارات جنيه من البنوك، وفى اليوم الثانى تم سحب 3 مليارات، وفى اليوم الثالث تم سحب مليار جنيه من البنوك، ولم يجد عميل واحد نقصاً فى الأموال بحيث لا تغطى طلباته فى السحب، وهنا عادت الثقة فى البنوك رغم الظروف المحيطة، وأثبتت قدرتها على الوفاء بالتزاماتها نحو العملاء الذين سحبوا أموالهم ووضعوها فى المنازل فى وقت لم يكن فيه أمن ولا أمان، وكانت النتيجة الطبيعية فى اليوم الرابع أن هذه الأموال السائلة التى تم سحبها على مدى ثلاثة أيام بدأت تعود مرة أخرى.. فالقضية هنا قضية ثقة فى المقام الأول.. ولكن القرار الذى صدر بتحديد سقف للسحب من العملة الأجنبية أو دخولها يضعف هذه الثقة بشكل كبير، وكلما طال أمد العمل بهذا القرار كانت له آثار سلبية على المواطن المصرى أولاً، وعلى حالة الاستثمار فى مصر ثانياً. هذا القرار يحتاج إلى إعادة نظر سريعة حتى تعود الثقة مرة أخرى وحتى يمكن تطبيق سياسات جذب الاستثمارات الأجنبية لمصر. فلا يمكن لدولة تستورد 65% من غذائها ومتطلباتها أن تستغنى عن العملة الأجنبية التى حتماً ستخرج من البنوك ولن تعود إليها طالما استمر هذا القرار، خاصة أن هذا القرار لم ينجح فى توحيد سعر الصرف فى البنوك، بل خلق سوقاً سوداء للمحاسيب.