منذ أن أعلنت اللجنة العليا للانتخابات موعد دعوة الناخبين للإدلاء بأصواتهم فى الانتخابات البرلمانية المقبلة، وحددت الجدول الزمنى للإجراءات، استبشر الناس خيراً، عبروا عن ارتياحهم لإتمام المرحلة الثالثة من خارطة الطريق.
وإذا مضت الأمور فى مسارها الصحيح خلال الأيام المقبلة، فمعنى ذلك أن مجلس النواب قد يعقد دورته الأولى فى النصف الأول من شهر ديسمبر المقبل، ليبدأ الفصل التشريعى الجديد، وتنتقل سلطة التشريع إلى المجلس.
لقد أكد الرئيس السيسى شديد حرصه أكثر من مرة على إجراء الانتخابات قبيل نهاية هذا العام، ولكن هل يدرك الرئيس أن هذا المجلس يمكن أن يكون سنداً لإعادة بناء الدولة وتحقيق المشروع الوطنى ويمكن أن يكون معوقاً؟
إن السلطات التى منحها الدستور الجديد لمجلس النواب المقبل هى سلطات تتعدى كل الحدود فى بلد عانى أزمات ومشاكل عديدة ولا يزال يعانى، ومن ثم فهو فى حاجة إلى الاستقرار والإنجاز لفترة من الوقت، بما يفضى إلى علاقة تسمح لرئيس الجمهورية بممارسة سلطاته الحقيقية التى سُلبت منه ومُنحت لبرلمان حتى الآن لا أحد يتوقع طبيعة تركيبته الجديدة.
لقد أعطى الدستور الجديد للبرلمان حق سحب الثقة من رئيس الجمهورية بالأغلبية المطلقة، وكذلك سلطة تعيين الحكومة وسحب الثقة منها، وحدَّ كثيراً من سلطات رئيس الجمهورية لصالح رئيس الحكومة، كما أصبح فى حوزة البرلمان سلطات أخرى، تجعل منه صاحب القرار الأول فى حكم البلاد.
إن الخطورة فى كل ذلك، أننا أمام برلمان لا أحد يستطيع أن يتنبأ بهويته المقبلة، والقوى الأساسية التى سوف تتحكم فى قراراته، ذلك أن كل ما ينشر من تحليلات ربما هى اجتهادات شخصية، أو قرارات قد تصح أو تخطئ ولكن لا أحد يمتلك ضمانة فعلية تسير إلى رسم دقيق لخارطة البرلمان المقبل.
كانت الاتجاهات فى البداية تشير إلى أن الرئيس السيسى ربما يكون له حزب، حتى وإن لم ينتم إليه، يستطيع من خلاله حشد المؤيدين لمواقفه وبرنامجه للتقدم بهم إلى الانتخابات، إلا أن الرئيس نفى ذلك أكثر من مرة، وقال إنه لا يسعى إلى بناء ظهير سياسى فى الوقت الراهن.
وهكذا أصبح الباب أمام الانتخابات البرلمانية التى ستجرى فى شهر أكتوبر المقبل مفتوحاً لكل التطورات والتوقعات، حيث يجرى استخدام كافة الآليات التى فى حوزة بعض القوى لتحقيق الأكثرية فى البرلمان المقبل.
هناك بداية سعى البعض إلى توظيف الدين بما يخدم أهدافاً سياسية محددة، فبعد سقوط الإخوان يطرح السلفيون أنفسهم كبديل سياسى يتصدر المشهد، وهم فى ذلك لا يتورعون عن التواصل مع ذات القوى التى استند إليها الإخوان، وأقصد الحوار مع الأمريكان وقوى الغرب، كما حدث خلال اللقاء المؤخر الذى جرى بمقر السفارة الأمريكية بين اثنين من أهم كوادر حزب النور وعدد من المسئولين السياسيين بالسفارة، وكان ذلك مؤشراً على طبيعة العلاقة الجديدة بين الإدارة الأمريكية والتيار السلفى ممثلاً فى حزب النور.
ويمتلك السلفيون فى مقابل ذلك إمكانات مادية هائلة، تمكنهم من صرف مبالغ طائلة على حملاتهم الانتخابية وإدارتها بأحدث الوسائل العلمية، والتواصل مع الجماهير بشتى الطرق إلا أن الشك والريبة لا يزالان هما سمة الجماهير فى نظرتها لهذا التيار.
وبالرغم من أن كثيراً من عناصر الإرهاب التى تم القبض عليها اعترفت بأن تكفيرهم للحاكم يستند أساساً إلى كتاب «الولاء والبراء» لنائب رئيس الدعوة السلفية «ياسر برهامى» فإن قطاعات كبيرة من السلفيين تحاول القفز بعيداً عن هذه الاتهامات، بالحديث عن الفارق بين السلفية التقليدية والسلفية الجهادية.
إذن علينا أن ندرك أن القوى المدنية ستواجه خلال الانتخابات المقبلة خطاباً مغايراً للسلفيين يسعى إلى الرد على كل ما يثار، ويقدم نفسه باعتباره فصيلاً من تحالف ثورة «30 يونيو» بالرغم من أن هذا الفصيل هو نفسه الذى شارك قبيل الثورة بخمسة عشر يوماً فى مؤتمر نصرة سوريا، الذى دعا إليه محمد مرسى فى الصالة المغطاة، وكان الخطاب السلفى الموجه للمصريين أشد عنفاً وتكفيراً، خاصة ما جاء على لسان د. محمد عبدالمقصود وآخرين، كما أن عناصر ليست بالقليلة من هذا التيار شاركت فى اعتصام رابعة واعتصام النهضة حتى اليوم الأخير.
صحيح أن الحركة السلفية منقسمة على نفسها وليست فصيلاً واحداً، إلا أن علينا أن نتوقع أن كافة الفصائل السلفية والأصولية سوف تتجمع سوياً فى حزمة واحدة لتقف خلف مرشحى حزب النور فى الانتخابات المقبلة.
موقف جماعة الإخوان
قد يتساءل البعض عن موقف جماعة الإخوان من الانتخابات البرلمانية المقبلة، وهنا تشير المعلومات إلى احتمال أن يدفع الإخوان ببعض من عناصر الصفين الثانى أو الثالث، وتحديداً بعض الأكاديميين وأساتذة الجامعات من الخلايا النائمة، ويأمل الإخوان من وراء ذلك إلى النجاح فى تحقيق تمثيل ولو محدوداً داخل البرلمان، يكون هدفه التحدث باسم الجماعة وطرح المشاكل والقضايا التى من شأنها إثارة الرأى العام عبر الطرق المشروعة، والسعى إلى إحراج القيادة السياسية عبر سياسة التشكيك وبث الشائعات والأكاذيب، محتمين بذلك بالحصانة البرلمانية التى تمكنهم من تحقيق كافة أغراضهم بعيداً عن المحاسبة والسؤال.
ومن خلال دراية كاملة بنهج الإخوان واستنادهم إلى «التقية» لتمرير الأكاذيب والادعاءات، يتوقع أن تخرج العديد من عناصرهم فى بعض الدوائر لتمنح أصواتهم للسلفيين أو المنتمين لبعض التيارات الأصولية الأخرى، فى الوقت الذى سيصدرون فيه البيانات بالدعوة لمقاطعة الانتخابات ورفضها. وفى الجولة الثانية للانتخابات، وحال دخول مرشحين ينتمون إلى الحركة السلفية وحزب النور حول الإعادة، هنا سوف يخرج الإخوان من جحورهم ليمنحوا أصواتهم هم والمقربون لهم للتيار السلفى.
صحيح أن هناك خلافات لا تنكر بين التيارين وصلت إلى حد الاعتداء والتهديد والوعيد، ولكن قيادة الإخوان ترى أن الرهان على السلفيين ودعمهم من شأنه أن يحقق لهذا التيار نسبة معقولة داخل البرلمان، حتى وإن لم يكن حباً فيهم، فهو نكاية فى الداعمين للرئيس السيسى.
ومن خلال المعرفة بالإخوان وتكتيكاتهم، فهذا الأمر ليس مستبعداً خلال المرحلة المقبلة، فالإخوان يريدون أن يبعثوا برسالة من خلال نجاح السلفيين تقول إن التيار الإسلامى لا يزال بعافيته، وإن داعمى السيسى فى تراجع، وإنه لا خيار أمام الجميع سوى الإقرار بهذه الحقيقة، وهو ما يدعم ادعاءات الإخوان وأكاذيبهم.
غير أن هناك من يرى أن المؤشرات التى انتهت إليها نتائج الانتخابات البرلمانية التونسية فى نهاية 2014 أكدت تراجع التيار الأصولى (حركة النهضة) وفوز التيار التقليدى (حركة نداء تونس) الذى يعتمد بالأساس على رموز المجتمع الدستورى الديمقراطى (حزب بن على)بـ86 مقعداً من جملة 217 مقعداً، بينما لم يفز حزب حركة النهضة الإسلامى سوى بـ69 مقعداً، متراجعاً بـ20 مقعداً، مقارنة بانتخابات سنة 2011، حيث تحصل على 89 مقعداً.
وبالرغم من أن حزب حركة النهضة فى تونس، المنتمى إلى التنظيم الدولى للإخوان، تميز بالذكاء السياسى فى معالجته للكثير من القضايا والحداثة، مقارنة بغباء جماعة الإخوان فى مصر، فإن الجماهير تراجعت عن دعمها له وقررت الوقوف مع رجال الدولة أياً كانت انتماءاتهم الفكرية، كما أنها حسمت أمرها فى الانتخابات الرئاسية لصالح أحد رجال عصرى بورقيبة، وزين العابدين بن على، وهو أمر لا يخلو من دلالة.
وفى ضوء ذلك لا يتوقع حصول السلفيين وفقاً لتوجهات الرأى العام، وفشلهم فى العديد من التجارب السابقة إلا على مقاعد محددة مهما امتلكوا من إمكانات أو حاولوا الترويج لخطاب مغاير لأدبياتهم ومواقفهم السياسية وتحديداً تجربتهم فى الدورة السابقة للبرلمان.
المال السياسى
إذا كان توظيف الدين هو إحدى سمات المعركة البرلمانية المقبلة، فإن المال السياسى سوف يلعب دوراً مهماً فى استقطاب كوادر مؤهلة للنجاح فى البرلمان المقبل.
وقد تراوحت المبالغ المقدمة ما بين مليون وثلاثة ملايين جنيه، بل وصل الحال إلى الوعد بمبلغ 50 ألف جنيه كراتب شهرى لكل نائب يحقق الفوز طيلة الدورة البرلمانية الجديدة.
ويعتمد هؤلاء على نواب سابقين، أو عناصر تنتمى إلى عائلات وقبائل لها وجود فاعل، وتحديداً فى مناطق «الصعيد» وبعض مناطق «بحرى» على اعتبار أن هذه العناصر لها رصيد عائلى وخدمى يؤهلها للفوز بمقعد البرلمان.
ولا يختلف هذا النهج عن أساليب البيع والشراء فى أسواق «النخاسة»، وعندما تبدأ المعركة الانتخابية ستتحول هذه الرموز القبلية إلى «مسخ» فى نظر مؤيديها، لأنهم سيتهمون هؤلاء بأنهم باعوا أنفسهم بالمال على حساب القيم والمبادئ، وأن هؤلاء، ووفقاً لقانون الانتخابات الذى يسقط عضوية النائب الذى يتخلى عن انتمائه الحزبى أو المستقل، سيصبحون مجرد ألعوبة لا تملك من أمرها شيئاً فى يد صاحب رأس المال الذى اشترى به إرادتهم لمدة خمس سنوات مقبلة.
ويجب ألا يظن أحد أن من قدم الأموال قدمها لوجه الله والوطن، بل إنه أراد أن تكون له كتلة انتخابية لحسابات سياسية لا يدرى أحد أبعادها، وأن هذا المال قد يكون وارداً من الخارج فتصبح التبعية أخطر وأنكى.
وقد يرى أصحاب هذا المخطط أن الهدف هو خلق تكتل لتشكيل حكومة مناوئة للرئيس تدافع عن أصحاب رأس المال وتتبنى رؤية معاكسة، وهؤلاء بالقطع سيقودون البلاد إلى نموذج الحالة اللبنانية أو العراقية، وهى حالة أدت إلى الفوضى التى يعيشها البلدان، فهل مصر قادرة على أن تعيش هذه الحالة؟
وإذا كان هؤلاء يستهدفون من وراء هذا التكتل الذى يسعون إليه إلى إحداث صدام مبكر بين البرلمان والرئيس، فهذا قطعاً سوف يقود إلى الفوضى، ويعطل التنمية، ويدفع البلاد إلى مزيد من الاحتقان، وهو نهج سوف يصب فى مصلحة دعاة الإرهاب ومصلحة أصحاب مخطط الشرق الأوسط الجديد، وإسقاط وتفتيت الدولة.
القوى الوطنية
وهنا يبقى التكتل الثالث، الممثل فى دعاة الحفاظ على الدولة وإعادة بنائها وتأييد المشروع الوطنى للرئيس عبدالفتاح السيسى، الذى حصل على أغلبية كاسحة فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة وصلت إلى 97٪، وهؤلاء ممثلون فى قائمة «فى حب مصر» وبعض القوائم الوطنية الأخرى، بعيداً عن هذا التكتل المناوئ للدولة وللرئيس، والممثل فى بعض الأحزاب الصغيرة التى تنتمى لفكر البرادعى أو 6 أبريل أو الاشتراكيين الثوريين أو تكتل «عاصرى الليمون» ممن وقفوا إلى جانب «مرسى» ودعموه فى مرحلة ما قبل لقاء «الفيرمونت» أو بعده.
إن التيار الداعم لثوابت الدولة الوطنية، وللرئيس عبدالفتاح السيسى، يمتلك أرضية واسعة فى الشارع، نابعة من رفض الجماهير للفوضى، وسعيها المستمر لإعادة بناء الدولة وهزيمة المخططات الداخلية والخارجية.
وهؤلاء الذين عايشوا التطورات السياسية والأمنية خلال السنوات الخمس الماضية، التى أعقبت ثورة الخامس والعشرين من يناير، أدركوا أن الخيار الوحيد أمامهم هو فى الأمن والاستقرار والتنمية، وأن هذا الخيار يمثله الرئيس والقوى الداعمة له، وأن البرلمان المقبل، إما أن يكون برلماناً للاستقرار، أو برلماناً لإشاعة الفوضى.
وتدرك الجماهير أن كثيراً من الشعارات التى سترفع عبر بعض العناصر المعروفة بتوجهاتها، ستكون تكراراً لسيناريو ما جرى فى 25 يناير، حيث رفع البعض شعارات التغيير، وكان الهدف هو الفوضى وإسقاط الدولة، ثم سرعان ما سقطت البلاد فى يد الإخوان، الأمر الذى تسبب فى تكلفة عالية، دفعها الشعب ومؤسساته المختلفة، ولا يزال يدفعها حتى الآن.
يبقى الحديث عن «الماضى» وما يسمى بـ«إعادة إنتاج النظام السابق».. وهنا تجب التفرقة بين أمرين:
- حلف الفساد وداعميه.
- والعناصر التقليدية ورجال الدولة.
صحيح أن البعض يسعى إلى بناء تكتلات بعينها من نواب سابقين، والهدف المعلن هو مواجهة أصحاب الأجندات الخارجية والمال السياسى الموجه لأهداف معادية لثوابت الدولة الوطنية. وفى تقديرى أن أى تكتلات من الماضى لا يمكن لها أن تسعى إلى إعادة إنتاج «نظام سابق»، فهذا نظام سقط إلى غير رجعة، كما أن أياً من عناصر الفساد والاستبداد لن تنجح فى فرض إرادتها على الجماهير، حتى ولو دفعت أموال الدنيا كلها. وسيكون من الظلم معاداة العناصر التقليدية، أو رجال الدولة الذين ينتمون للتنظيمات السياسية للدولة، من منطلق الحرص على التمثيل العائلى، والقبلى، وضمان تحقيق المصالح للدوائر التى ينتمون إليها، وطالما أن هؤلاء لم تمسهم الاتهامات، أو تصدر ضدهم الأحكام، فلا ضرر ولا ضرار، ذلك أن لهم وجودهم فى الشارع، وسيكونون هم مفاجأة الانتخابات المقبلة، وقد لجأت إليهم كافة الأحزاب بلا استثناء، حتى هؤلاء المتشددون، قالوا إنهم «يفرقون بين من تورطوا فى جرائم المال العام أو الاستبداد السياسى وبين العناصر التقليدية».
وأظن أن القراءة الموضوعية، والرؤية التاريخية، تؤكد أن هؤلاء من الداعمين للدولة وتوجهاتها فى كل المراحل التاريخية، ومن ثم فإن فوزهم لا يمثل خطراً، لا على الدولة، ولا على الرئيس.
إن خريطة النتائج الانتخابية المقبلة سوف تحدد حتماً مستقبل هذا البلد لخمس سنوات مقبلة، بل لا أغالى إذا قلت إنها ستحدد مستقبل المنطقة بأسرها لسنوات طويلة، من هنا يراهن الجميع على الانتخابات المقبلة ونتائجها.