أسماء العشرات من أعضاء الحزب الوطنى وممثليه فى برلمانات سابقة تظهر على قوائم المرشحين للانتخابات المقبلة، والأرجح أن الكثيرين منهم سيفوزون فى الانتخابات. فوز أعضاء «الوطنى» فى الانتخابات المقبلة فى غياب الحزب الذى طالما قدم الدعم لمرشحيه يشير إلى أن فوز أعضاء «الوطنى» فى الماضى لم يكن كله مفتعلاً ومزوراً، وأن أعضاء «الوطنى» يمثلون شيئاً حقيقياً فى هذا المجتمع.
برلمانيو الحزب الوطنى الذين نجحوا فى الماضى وسينجح الكثير منهم فى الانتخابات المقبلة يمثلون جماعات مصالح وتحالفات محلية موجودة على مستوى الدوائر الانتخابية. التحالفات المحلية التى تلعب الدور الرئيسى فى إنجاح النواب تتكون من عائلات وقبائل ما زال لها قدر كبير من التماسك، وأثرياء محليون لهم مصالحهم الاقتصادية، وموظفون فى الجهاز الإدارى للدولة هم من أبناء الدائرة يعيشون ويصوتون فيها ولهم علاقاتهم المتشعبة بعائلاتها وأصحاب المصالح فيها، وتجمعات ذات طابع دينى مسلم ومسيحى، وتجمعات طوعية مختلفة الأشكال والألوان، بدءاً من أصدقاء المقهى وانتهاء بالجمعيات الأهلية، لكى يفوز المرشح فى الانتخابات فإن عليه الفوز بتأييد أكبر قدر ممكن من كل هؤلاء، فالنائب الفائز فى الانتخابات ليس مجرد مواطن عادى قرر وضع اسمه على قائمة المرشحين، ولكنه شخصية عامة مندمجة فى مجتمعها المحلى بمكوناته المختلفة، معروف لكبار العائلات وأصحاب المصالح الاقتصادية ورجال الإدارة والتجمعات الطوعية وموضع ثقة القسم الأكبر منهم، وتأييد هؤلاء ضرورى لنجاحه.
شبكات المصالح المحلية ليست موحدة ولا متجانسة، لكنها متعددة ومتنافسة، ولكل منها مرشحه المفضل الذى يسعى لإنجاحه، المنافسة بين المرشحين ومن ورائهم أنصارهم حقيقية وأصيلة، فشبكات المصالح المحلية صاحبة وجود أصيل فى المجتمع، وممثلوها فى البرلمان يستمدون شرعيتهم من أصالة الجماعات التى يمثلونها، أما الشىء المفتعل والمشكوك فى أصالته فهو الحزب الوطنى الذى كان العشرات من النواب فى الماضى مضطرين للعمل تحت مظلته.
تأسس الحزب الوطنى بقرار سلطوى، وبمجرد تأسيس الحزب بهذه الطريقة ظهر عامل إضافى لم يكن بإمكان المتنافسين المحليين تجاهله، فالصلة بالسلطة أحد مصادر القوة والنفوذ التى لا يستطيع المتنافسون تجاهلها وإلا انفرد خصومهم بالاستفادة منها، التحق كل هؤلاء بالحزب وأخذوا معهم منافساتهم وخصوماتهم، فتحول الحزب إلى ساحة إضافية للصراع بين الجماعات المحلية المتنافسة ولم يكن أبداً إطاراً ناظماً ومنسقاً لمصالحها، تشكيلات الحزب الوطنى وهيئاته المحلية كانت متفسخة ومشغولة بالصراع بين أعضائها، فيما بدا الحزب موحداً ومنضبطاً عند قمته، فكانت وحدة الحزب وانضباطه أمراً مفتعلاً ومصطنعاً معدوم الأصالة، على عكس شبكات المصالح المحلية المتصارعة عند القاعدة.
صمدت شبكات المصالح المحلية فى وجه الاضطراب السياسى العميق الذى ضرب البلاد خلال الأعوام الخمسة الماضية، أما الحزب الوطنى فقد اختفى، لم يختف الحزب الوطنى بسبب قرار اتخذته المحكمة بحله، ولكنه اختفى لأن قواعده المتفسخة لم تكن قادرة على العمل معاً لإعادة بناء الحزب تحت لافتة أو اسم جديد، شكل بعض نشطاء «الوطنى» والمرتبطين بهم أحزاباً عدة، فى محاولة منهم لإعادة تجميع عقد الحزب الذى انفرط، لكنهم لم ينجحوا سوى فى بناء أحزاب صغيرة يتركز تأييد كل منها فى إقليم محدود من أقاليم البلاد، فهذا تتركز قواعد تأييده فى بعض محافظات وسط الدلتا، وذاك يتمركز نفوذه فى جنوب البلاد، لكن أياً منها لم يستطع إعادة خلق الكيان الموحد الذى كان عليه الحزب الوطنى، جهود نشطاء الحزب الوطنى السابقين لتأسيس أحزاب جديدة هى جهود أصيلة وحقيقية، لكن الحزب الوطنى المصطنع غير قابل لإعادة الخلق إلا بقرار سلطوى كما تشكل الحزب لأول مرة، وفى غياب مثل ذلك القرار سيعود نواب «الوطنى» إلى البرلمان، ولكن الحزب الوطنى نفسه لن يعود إلا إذا قرر الرئيس السيسى تشكيل حزب تحت قيادته، كما فعل السادات من قبل.
فى الماضى، تنافست شبكات المصالح المحلية فيما بينها تحت مظلة الحزب الوطنى، فوجدنا الحزب يتقدم بعدد من المرشحين للتنافس على المقعد الواحد، مقدماً دليلاً أكيداً على تفسخ الحزب وفقدان الوحدة الداخلية، أما اليوم فقد ذهب هؤلاء مذاهب شتى، فمنهم من تم ضمه لقائمة «فى حب مصر» المقربة من الدولة، ومنهم من التحق بقائمة أخرى منافسة، ومنهم من ترشح فردياً باسم «المصريين الأحرار أو الوفد أو المؤتمر أو المحافظين»، ومنهم من اختار الترشح مستقلاً، وعندما يصل هؤلاء لمقاعد البرلمان فإنهم سيجلسون هناك محافظين على ولائهم الذى لم يتخلوا عنه أبداً لشبكات المصالح المحلية التى انتخبتهم، ولكنهم سيتمتعون بقدر كبير من الحرية إزاء السلطة السياسية، فيعبرون عن آراء ومواقف متنوعة تعكس قناعاتهم الأصيلة مهما كانت مشوشة وغير مبنية على معرفة كافية.
فى وضع مثل هذا لن يكون تأييد النواب للسلطة وحكومتها أمراً تلقائياً ومفروغاً منه، وسيكون على الحكومة بذل الجهد لإقناع النواب والفوز بتأييدهم، بما يفتح باباً للمفاوضات والمساومات فيه من السياسة البرلمانية قدر أكبر بكثير من ذلك الذى كان لدينا فى زمن الحزب الوطنى، عندما كانت إيماءات كمال الشاذلى ومن بعده أحمد عز كفيلة بدفع الأغلبية للتصويت فى الاتجاه الذى تختاره السلطة.
النواب المقبلون من خلفية الحزب الوطنى ليسوا معارضين للنظام، على العكس فهم من أشد المؤيدين له، وفيما سيقف هؤلاء وراء اختيارات أهل الحكم فيما يرونه جوهرياً ورئيسياً، فإنهم فيما عدا ذلك سيذهبون مذاهب شتى وفقاً لرؤاهم الخاصة ووفقاً لارتباطاتهم الحزبية الجديدة، وربما أدى هذا إلى فتح الباب لممارسات ديمقراطية تزيد تدريجياً.