يبدو أن التراشق الحاد الذى تبادله الرئيسان أوباما وبوتين من فوق منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذى وصل إلى حد الاتهامات المتبادلة، لم يترك مساحة لأى اتفاق محتمل بين الرئيسين الروسى والأمريكى خلال لقاء القمة الذى جمعهما يوم الاثنين الماضى يفتح الطريق لتسوية الأزمة السورية، ويوحّد جهود المجتمع الدولى فى الحرب على داعش، ويبدو أيضاً أن الاتهامات الصريحة والمباشرة التى تبادلها الرئيسان الأمريكى والروسى يمكن أن تؤدى إلى المزيد من تعقيد الأزمة وإطالة أمد النزاع، خاصة مع اتساع شقة الخلاف بينهما، وإصرار الرئيس أوباما على أن روسيا تريد أن تجر العالم مرة ثانية إلى منطقة حالكة السواد، كى تعم الفوضى وتفرض روسيا بالقوة العسكرية إرادتها على المجتمع الدولى!، فى الوقت الذى يصر فيه الرئيس الروسى بوتين على ضرورة الإبقاء على الرئيس السورى بشار الأسد ضمن التحالف الدولى فى الحرب على داعش، لأنه لا أحد غير بشار الأسد وقواته المسلحة يحارب «داعش» بجدية وضراوة!.
وما يزيد من صعوبة الموقف، هواجس الأمريكيين المتزايدة من خطط الرئيس الروسى بوتين المفاجئة لتعزيز الوجود العسكرى الروسى فى سوريا، من خلال جسر جوى لم ينقطع وصوله على امتداد الأسبوعين الماضيين إلى قاعدة باسل الأسد الجوية على مسافة 15 كيلومتراً من مدينة اللاذقية، يحمل عشرات القاذفات والمقاتلات الروسية وبعض أنظمة الدفاع الجوى وأعداداً غير قليلة من الطائرات بدون طيار إضافة إلى دبابات «ت 90» وعدد من الجنود الروس يقدر الأمريكيون حجمهم فى حدود ألفى رجل، فضلاً عن إعلان موسكو المفاجئ عن مناورات بحرية روسية تجرى شرق البحر المتوسط تشارك فيها أكبر قطع الأسطول الروسى، بما يؤكد إصرار الرئيس بوتين على أن يكون لاعباً رئيسياً فى الأزمة السورية وطرفاً أساسياً فى لعبة الشرق الأوسط، يفرض على المجتمع الدولى الرئيس بشار الأسد شريكاً فى التحالف الدولى فى الحرب على داعش، وربما زاد من هواجس الأمريكيين قرار حكومة بغداد الأخير الذى فاجأ واشنطن، واعتبر روسيا وسوريا وإيران شركاء أساسيين فى عملية تبادل المعلومات حول أوضاع داعش فى سوريا والعراق، الأمر الذى أثار مخاوف واشنطن من احتمال حدوث تقارب روسى إيرانى على أرض العراق!.
وتعتقد دوائر أمريكية عديدة فى مقدمتها البيت الأبيض، أن هدف بوتين من تعزيز الوجود العسكرى الروسى فى سوريا هو تأكيد سيطرته الكاملة على الأوضاع الداخلية فى روسيا، وجذب انتباه العالم بعيداً عن المشكلة الأوكرانية، خاصة مع اقتراب موعد تجديد العقوبات على روسيا، وبرغم بعض الوعود الوردية التى أطلقها الرئيس أوباما فى ثنايا خطابه أمام الجمعية العامة، عندما دعا أقرانه وزملاءه من قادة العالم، بما فى ذلك روسيا إلى ضرورة التعاون المشترك فى الحرب على الإرهاب، وأكد أن كافة المشاكل التى تواجه العالم وتفجر أحداث العنف فى بقاعه المختلفة يمكن وينبغى أن تجد حلولها السياسية عبر الدبلوماسية وليس الحرب، بما فى ذلك الأزمة السورية والمشكلة الأوكرانية والوضع المتدهور فى العراق، برغم هذه الوعود الوردية، لا يبدو واضحاً حتى الآن إن كان لقاء بوتين وأوباما يوم الاثنين الماضى قد نجح فى الاتفاق على آلية واضحة ومحددة توحد جهود المجتمع الدولى فى الحرب على الإرهاب، أم أننا سوف نواجه المزيد من الانقسام الدولى بسبب إصرار روسيا على إنشاء تحالف دولى جديد للحرب ضد داعش يضم إيران، كما يضم بشار الأسد، رغم وجود تحالف غربى تقوده واشنطن تقوم طائراته بالقصف الجوى لمواقع داعش فى العراق وسوريا على مدى عام كامل دون أن تنجح فى تفكيك قبضته على أى من الأراضى التى يحتلها!، ابتداء من محافظة الرمادى على مسافة كيلومترات محدودة من بغداد إلى الموصل ثانية مدن العراق إلى مدينة الرقة السورية فى بادية الشام التى جعل منها داعش عاصمة لإمارته. لكن الواضح من حديث الرئيسين بوتين وأوباما أمام الجمعية العامة واعترافاتهما المعلنة بأوجه القصور فى سياسات بلديهما أن العالم لم يعد يحتمل المزيد من الانقسام والعنف، كما أن أياً من قواه الكبرى لم يعد فى وسعها منفردة أن تعيد الأمور إلى نصابها الصحيح أو تحتكر دور الشرطى أو المصلح، وما لم يتوافق الجميع على حد أدنى من الوفاق والتعاون المشترك، فسوف تزداد أوضاع البشرية سوءاً، ويهلك كوكبنا الأرضى تحت أثقال مشاكل ضخمة متراكمة، لوثت مناخه ودمرت بيئته وتهدد بفقدان الكثير من موارده الطبيعية، لأن العالم الآن لم يعد مجرد قرية إلكترونية صغيرة بفعل التطور الذى حدث فى عالم الاتصالات، وهدم حدود الجغرافيا وأسوار العزلة وأبقى على السماوات المفتوحة، ولكنه أى العالم بات مثل الأوانى المستطرقة لا يستطيع أى جزء منه أن يفلت أو يهرب من آثار العلل والأوجاع التى تصيب باقى أجزائه!.
يؤكد ذلك الفشل الذريع الذى منيت به خطط الرئيس أوباما لتجهيز جيش من المعارضين السوريين قوامه 5000 مقاتل لمحاربة داعش، وعندما تم ترحيل أول فوجين من هذه القوة إلى شمال سوريا ليمارسوا مهمتهم فى الحرب على داعش، سلم الفوجان كافة تجهيزاتهما وأسلحتهما إلى جبهة النصرة، التنظيم الإرهابى الذى يعمل فى سوريا لحساب القاعدة!، وليس بعيداً عن ذلك الفشل الدولى الذريع الذى واجه المجتمع الدولى فى معالجة قضية طوفان الهجرة السورية التى تدق أبواب أوروبا، والذى لا يزال مستمراً يهدد بخروج أكثر من خمسة ملايين سورى جدد رغم هجرة أكثر من أربعة ملايين مواطن سورى خارج بلادهم.
ولا أظن أن تبادل الاتهامات بين أوباما وبوتين من فوق منبر الجمعية العامة حول مسئولية كل منهما عن تدهور الأزمة السورية يمكن أن يعفى أياً منهما من المسئولية، فالاثنان مسئولان ومدانان ويركبهما الخطأ من قمة الرأس إلى أخمص القدم، ومع ذلك ثمة متغيرات مهمة لا بد أن تدفع الطرفين أوباما وبوتين إلى مراجعة مواقفها أولها وأهمها، قبول الرئيس الروسى بوتين لفكرة وجود تحالف دولى واحد يمكن أن تشارك فيه روسيا تحت قيادة واشنطن، وقبول الرئيس الأمريكى أوباما لإمكانية أن تكون طهران طرفاً فى هذا التحالف الدولى، لأنها باعتراف وزير الخارجية الأمريكية، جون كيرى، تشكل عنصراً مهماً يحسن أن يشارك، وثانيها انحياز عدد متزايد من قادة الدول الأوروبية فى مقدمتهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى ضرورة الإبقاء على حكم بشار الأسد خلال الفترة الانتقالية، وتسليم عدد واسع من أعضاء المجتمع الدولى بضرورة الحفاظ على مؤسسة الجيش السورى، لأنها تشكل أهم مؤسسات الدولة السورية، ولأن الجيش السورى يمارس بالفعل دوراً جاداً فى الحرب على داعش.
والأمر المؤكد أن الاجتماع المغلق بين الرئيسين أوباما وبوتين، الذى استمر أكثر من ساعة ونصف الساعة لم ينجح فى خلق مساحة اتفاق مشترك بين الاثنين، وبرغم إشاراتهما المتعددة إلى إمكانية التعاون فى الحرب على داعش، فإن كلاً من الرئيسين يحمل وجهة نظر مغايرة ليس فقط حول الأزمة السورية وطرق مواجهتها، ولكن حول مجمل قضايا الشرق الأوسط، كما أن كلاً منهما يصر على أن يحمّل الآخر مسئولية تدهور الموقف، وهذا ما أكده الرئيس الروسى بوتين للصحفيين الروس، وهم فى طريق العودة إلى موسكو، عندما وصف العلاقات الراهنة بين موسكو وواشنطن بأنها فى أدنى مستوياتها، مؤكداً ضرورة العمل على تحسين الصورة، ولو فى نطاق العلاقات الثنائية بين البلدين!.
وبرغم أن الرئيس أوباما لم يغلق الأبواب أمام إمكانية الوصول إلى حل وسط مع روسيا وإيران يفتح طريق التسوية السلمية للأزمة السورية، فإن الواضح أن واشنطن سوف تعارض أى عمل عسكرى روسى منفرد فوق الأرض السورية، وذلك يعنى أن الأزمة السورية لن تجد حلاً قريباً، وسوف تستمر معاناة الشعب السورى فترة أطول، مع استمرار جهود واشنطن فى حصار الموقف الروسى وتجريده من أى تعاطف دولى يأتى على وجه الخصوص من داخل أوروبا، وربما تحاول واشنطن إرباكه بالمزيد من العقوبات الدولية بسبب الأزمة الأوكرانية.