- يقول الأكاديمى الفلسطينى أشرف البطران: لا يمكن للمؤسسة التربوية الإسهام بفعالية فى ترسيخ منظومة القيم الأخلاقية والعلمية والتفكير الواعى، والنقدى، والجدلى، بمعزل عن فضاء تربوى ديمقراطى، فكما يرى «كانت»: «لا شىء يساعد الإنسان على النمو وتطوير ملكاته وقدراته كما تساعده الحرية»، فالمدرسة كفضاء تربوى مكلفة بإعداد العنصر البشرى وتهيئته لممارسة السلوك الحوارى الديمقراطى حتى يصبح جزءاً من المنظومة الفكرية والثقافية، وهذا ما تفتقر له مدرستنا اليوم -استراتيجية الحوار- فهى تقوم على أساس سلطوى بيروقراطى من قمة الهرم التربوى إلى قاعدته المقهورة.
إن انتزاع الحرية يقابله إنكار لإنسانية الإنسان وحقوقه وواجباته، ويفرض عليه طريقة تفكير مغايرة لطريقة تفكيره، ويجهض أية فرصة لاستكشاف ذاته بذاته على اعتبار أنه قاصر ولم يبلغ سن الرشد بعد، وكأنك تقول لا تفكر أنا موجود، أقرر عنك، أبين لك الخير والشر، أفرز لك الغث من السمين والخطأ من الصواب، أى أرسم لك حياتك وفق ما أراه مناسباً.
إذن، ما قيمة العقل فى هذه الحالة إذا لم يكن بمقدورى أن أهتدى به لضالتى؟ إذا كان لا بد لى من السير فى طريق ممهد ومعبد سلفاً من قبل المعلم، فليس ثمة ما يدعو لاستخدامه وإجهاده فى قضايا جاهزة ومخطط لها مسبقاً، هذا التعطيل لدور العقل عزز مواطن الخرافة والعالم اللامعقول فى ثقافتنا.
- إن التربية الحديثة تضع الطالب فى أجواء حوارية توفر له كل شروط الاستقلال والتحرر، وتستفز عقله، وتحدث فيه نوعاً من الحراك الذهنى، وتجبره على الابتكار والإبداع والخروج من حالة الخمول والتكلس التى سببها النمط التقليدى، ولا يفهم الحوار هنا على أنه وسيلة تكتيكية الغاية منها ترويض الطلبة وإخضاعهم مرة أخرى، لأنه سرعان ما ستكتشف هذه المسايرة التى يمكن أن أسميها خديعة، بل يجب أن يكون الحوار متأصلاً فى جوهر العملية التربوية وغايتها دائماً، لأنه بالحوار فقط يمكن للأنا التى لا تناقش والأنت المفرغ والقاصر وما بينهما من إشكالات أن تسقط، ويحل محلها الأنا الجماعية التى يتبادل فيها المعلم والطالب الأدوار.
- ومن الطبيعى أن يواجه ميلاد عهد التنوير التربوى القائم على الديمقراطية الحوارية التى تكفل للإنسان كرامته وحريته واستقلاله الذاتى ومعاملته كغاية دائماً لا كوسيلة، مخاضاً عسيراً نتيجة غياب التجربة وفقرها، إن كان ذلك على صعيد المعلم أم الطالب، وحتى النظام التربوى بشكل عام، لكن الحل ليس بتقويض العمل الديمقراطى بل بممارسة المزيد منه، ولا بد أن نكون على يقين من أن الديمقراطية ممارسة، وأنها تجربة إنسانية تصحح نفسها بنفسها، وبالتالى لا بد أن نتوقع ظهور كثير من الأخطاء فى بداية المسيرة، لكن ذلك ينبغى ألا يقلقنا، وليكن شعارنا أن أفضل علاج لأخطاء الديمقراطية هو المزيد من الديمقراطية، حتى تصبح منهجاً وأسلوب حياة وجزءاً من المنظومة الفكرية لمفردات ذلك النظام، وهذا يتطلب تغييراً جذرياً فعّالاً فى استراتيجيات التخطيط والتنفيذ، وليس هامشياً عشوائياً، ابتداءً من إعداد القيادة التربوية التى تمثل الجانب التخطيطى، والكادر التعليمى الذى يمثل الجانب التنفيذى، لاستيعاب المفاهيم الديمقراطية وقبولها، كالحرية، والعدالة، والمساواة، والتسامح، وحقوق الإنسان، وقبول الآخر وعدم نفيه.. إلخ، وصولاً إلى تخليهم عن البيروقراطية وأشكال تسلطها، على اعتبار أنهم يمثلون الضمانة الوحيدة لغرس تلك المثل والقيم فى نفوس الناشئة، وتمكنهم من اكتساب قيم تناقض الاستبعاد والنفى والأحادية، فدون اقتناعهم، كيف يمكن لعجلة التغيير أن تتقدم للوصول إلى المجتمع الديمقراطى المصغر المدرسة، الذى لا يمكن فصل تأثير تبعاته وما يدور فيه عن السياق الاجتماعى.
سيما أن التغير الاجتماعى الكبير فى منظومة القيم والسلوك السائدة، واكتسابهم قيماً وأنماطاً سلوكية حياتية حقيقية تمكنهم من ممارسة الديمقراطية بصورة فعلية، أمر مرهون بمدى التغيير الحاصل فى المجتمع الصغير، أى أن المجتمع لا يمكن أن يعيش الديمقراطية واقعاً فى حياته إلا إذا أنتجت المدرسة ديمقراطيين حقيقيين، وحتى تكون المدرسة فى توجهاتها وخططها ونمط إدارتها تنزع نحو الديمقراطية لا بد من إجراء تغييرات جوهرية فى صلب العملية التربوية تأخذ بعين الاعتبار النقاط التالية:
- إنشاء مراكز فعالة لإعداد قادة تربويين يتميزون بالكفاءة والرؤية والانتماء المهنى.
- إعداد المعلم تربوياً وثقافياً ومعرفياً فى إطار مؤسسى ديمقراطى.
- بناء مناهج ديمقراطية تحرّرية تضمن سيادة روح الديمقراطية سلوكاً وممارسة.
- ضرورة دمج مبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية فى التعليم، وليس حشرها فى مقررات شكلية.