ردود الفعل الروسية على إسقاط طائرتها الحربية بالصواريخ التركية يؤشر إلى دب قطبى مختلف يُعيد إلى الأذهان أزمة خليج الخنازير، ولكن بتداعيات وتأثيرات أخطر، أما تصريحات «بوتين»، فلا يمكن تجاهلها أو المرور عليها مرور الكرام، لأنها تؤكد أننا أمام رئيس مختلف يملك إصراراً على المواجهة ومواصلة سياساته دون سقف أو حساب العواقب.. على الأقل حتى الآن.
«بوتين» أصبح يمثل للشرق الأوسط مفتاحاً مهماً للدخول برؤية مختلفة إلى مرحلة جديدة ربما تكون المعادل الموضوعى فى مواجهة مخطط إعادة تقسيم المنطقة العربية وفقاً لتصريحات مدير المخابرات الفرنسية برنار باجوليه التى قال فيها «إن الشرق الأوسط الذى نعرفه انتهى إلى غير رجعة وإن دولاً مثل العراق وسوريا لن تستعيد أبداً حدودها السابقة». إلى هنا انتهى الاقتباس من مقال الصديق ياسر عبدالعزيز المنشور الجمعة قبل أمس هنا فى «الوطن».
الأمر لم يعد فى إطار رؤية تحليلية قابلة للاتفاق والاختلاف، أو دعوة للسخرية -كما يحلو لبعض المتحذلقين- من مفهوم المؤامرة فى توصيف ما تمر به المنطقة العربية خلال السنوات الأربع الماضية، فالملف تحول من التحليل إلى أحداث ومن توقعات إلى مواقف صريحة معلنة تؤشر إلى تداعيات أخرى كثيرة مُنتظرة، وتؤكد أننا مطالبون برؤية استراتيجية وتحالفات دولية وإقليمية تقف فى مواجهة مخطط تقسيم المنطقة من دول إلى دويلات.
كتبت هنا فى عدد السبت 3 أكتوبر الماضى تحت عنوان «سوريا بوابة الخريطة الجديدة»: «لقد عمدت مصر إلى دعوة فصائل سورية معارضة للتحاور بالقاهرة، وهو سلوك سبق أن أقدمت عليه موسكو، بهدف تقريب وتجميع جهود المعارضة السياسية وتشكيل جبهة مقابل الجماعات المسلحة على الأرض، ولم تلقَ تلك الجهود دعماً إقليمياً أو دولياً من قوى التحالف الدولى الغربى وأنصاره بالمنطقة، بل فى ما يبدو تحركت بشكل مناهض له».
تداعيات هذه التحركات المتقاربة من القاهرة وموسكو أرسلت إشارات إلى الغرب بمخاطر تتهدد سياستهم الجديدة فى المنطقة، ودفعت بالحليف التركى إلى دور جديد فى سياق المهام المكلف بها من توفير الدعم اللوجيستى لجماعة «داعش» فى الشام، إلى توجيه الرسالة المضادة إلى روسيا، وفحواها إمكانية إشعال فتيل المواجهة العسكرية فى المنطقة، وتحويلها إلى ساحة للدمار من أجل إكمال المخطط المرسوم.
ذكرى مئوية سايكس بيكو (1916 - 2016) لن تمر بهدوء، فالمنطقة التى تم تقسيمها إلى دول قبل 100 عام، مطلوب الآن تفتيتها إلى دويلات طائفية عبر تفجير نزاعات مسلحة متنوعة الخلفيات، فى القلب منها جماعات سنية متطرفة، مهمتها استقطاب الصراع نحو مزاعم بحماية الإسلام من غير المسلمين، والاتجاه بالصراع إلى استهلاك المنطقة فى حروب تختزل موجة الإرهاب بها من ناحية وتخضعها للمصالح الغربية من جهة أخرى، كما حدث قبل 100 عام، لكن فى رداء جديد.
الوجود الروسى فى معادلة الصراع الجديدة ومواقف بعض الدول العربية، ومنها مصر تجاهه تمثل أدوات ملائمة لإمكانية إعادة ترتيب وتركيب الصورة، رغم بعض الجوانب والتداعيات السلبية للمواجهات المسلحة، التى ربما تسيل لعاب البعض لإشعال الحرب بالمنطقة على حساب سكانها، لكن هذه المخاوف يجب ألا تمنع مواصلة سياسات مواجهة «سايكس بيكو 2»، والاستمرار فى مخطط تفتيت المنطقة وتوسيع نطاقه إلى دول أخرى.
فى السبعينات، كان شعار «لا تصالح» والآن وأمام الضغوط المنتظرة والحصار الاقتصادى الواضح لدفع مصر لتغيير مواقفها الداعمة لتعديل موازين القوة على الأرض، يجب أن يصبح الشعار «لا تراجع».