صار لدينا برلمان، واكتملت خارطة الطريق، التى أُعلنت عقب 30 يونيو 2013، بتوافق من القوى الوطنية والسياسية، وبتكوين البرلمان تكتمل المؤسسات الديمقراطية الرئيسية فى البلاد، وعلينا أن ننتظر بثقة وبتفاؤل أداء أعضاء البرلمان لمهامهم فى الرقابة والتشريع، ونعرف أن عليهم واجباً كبيراً، نثق بأنهم سوف يقومون به، تحقيقاً لأهداف ثورة (25 يناير - 30 يونيو)، وفى الأيام الأخيرة ظهرت بعض التحليلات والآراء تكشف عدم سعادة أصحابها بنتائج الانتخابات وما أفرزته من أعضاء، ومن قواعد الديمقراطية أن نحترم اختيارات الناخبين.
ويقتضى الأمر أن نتوقف بالبحث فى نتائج الانتخابات البرلمانية، ومنها نتبين مزاج الناخب المصرى فى هذه المرحلة، ويمكن أن نستشف معالم الأداء البرلمانى المقبل، والحق أن النتائج عديدة ومتنوعة، ولن نتوقف أمامها جميعاً، سوف أكتفى بعشر منها، على النحو التالى:
أولاً: الحضور اللافت للمرأة المصرية فى النتائج، سواء فى المواقع الفردية أو فى القوائم، ليصل المجموع إلى حوالى 84 نائبة وصلن جميعاً بانتخابات حرة، وليس عبر «كوتة»، أو مواقع محجوزة لهن سلفاً، بنص قانونى، وقد بحَّ صوتنا من قبل بضرورة تمكين المرأة، وتقاعس الحزب الحاكم قبل سنة 2011، عن الدفع بالمرأة إلى البرلمان وإتاحة الفرصة أمامها، ثم بعد ثورة 25 يناير، ومع صعود جماعة الإخوان وحواشيها حدث نكوص فى وضع المرأة، لكننا هذه المرة نجد أن العدد قد يصل إلى 90 نائبة، إذا قام السيد الرئيس باختيار عدد من النساء بين الأعضاء، الذين يخول الدستور له تعيينهم فى البرلمان.
ثانياً: المبهر فى الانتخابات هو الوجود القبطى سواء على مستوى الترشيح أو النجاح، وقد نال العضوية 36 قبطياً، بينهم 12 من المقاعد الفردية، وهو أكبر رقم يحققه الأقباط فى تاريخ الحياة النيابية المصرية، منذ سنة 1866، بل إن إحدى الدوائر بالمنيا كانت القائمة فى الإعادة بين مرشحين قبطيين، والدائرة معظم ناخبيها من المسلمين، ومعنى هذا أن الأزمات الطائفية السابقة وعدم تمثيل الأقباط، لم تكن سلبية فى الشعب المصرى، بل فى النظام السياسى، الذى كان قائماً.
فى انتخابات الرئاسة سنة 2012 مُنعَ الأقباط فى عدد من قرى الصعيد من الخروج والإدلاء بأصواتهم، وابتلعها الجميع، فيما اعتبر ردة إلى أوضاع أسوأ مما كانت قبل ثورة 25 يناير.. هذه المرة وجدنا مشهداً مختلفاً تماماً، ينبئ عن جدية الدولة والمجتمع فى بناء الدولة المدنية الوطنية الدستورية، التى نطمح إليها جميعاً، إلا دعاة العودة إلى ماضٍ سحيق (مظلم)، يحدث هذا فى وقت رأينا فيه المواطنين المسيحيين يطردون من مدينة الموصل، وغيرها من المواقع التى سيطر عليها «داعش»، مما دفع البعض من المحللين إلى توقع إخلاء المنطقة العربية من المسيحيين.
ثالثاً: نجاح بارز لمجموعات من الشباب، وصلوا إلى 45 نائباً، سواء الفردى أو بالقائمة.
ومع سعادتنا بتمثيل الشباب ووجودهم، يجب أن نسجل غياب الكهول هذه المرة، وسوف تثبت التجربة ما إذا كان غيابهم سوف يكون بالسلب أو بالإيجاب فى الأداء البرلمانى.
رابعاً: الفشل الذريع للمرشحين ذوى الإنفاق المالى الضخم، وانطلق فى عدد من المناطق العشوائية شعار: «خد خيره وانتخب غيره»، ومن ثم سقطت نظرية النجاح المحتمل بزجاجات الزيت وأكياس السكر أو دفع بعضهم الأموال هنا وهناك، ليس من باب الخدمة الاجتماعية، بل من باب شراء الأصوات، ربما نجحت تلك الحالة مرة، لكن باتت مكشوفة وممجوجة، فى إحدى الدوائر بالقاهرة أنفق مرشح أكثر من 30 مليون جنيه، وكانت مرتبته (16) فى الحصول على الأصوات.
خامساً: نسبة النجاح الأعلى كانت من نصيب المستقلين، 56% من المقاعد لهم، وهذا يعنى أن الحزبية لم تتجذر بعد لدى الناخب المصرى، وهذا ليس جديداً، حدث فى كل الانتخابات السابقة، والمعنى أن الأحزاب ما زال وجودها مهتزاً فى الشارع، واللافت هنا أن فى مصر أكثر من مائة حزب سياسى، بينما من أمكنه الحصول على تمثيل نيابى أقل من 20 حزباً، وهذا يعنى أن لدينا حوالى 83 حزباً أو أكثر، لم ينل أى منها مقعداً واحداً بالبرلمان، وفى بعض الدول الديمقراطية، فإن الحزب الذى لا يكون ممثلاً فى البرلمان يسحب ترخيصه، الأمر عندنا يقتضى بحثاً خاصاً.
سادساً: حتى بين الأحزاب التى حققت نجاحاً، فإن الأحزاب القديمة والتاريخية، باستثناء الوفد، لم تحقق نتائج تذكر، حتى «الوفد» فقد جاء بالمرتبة الثالثة على مستوى الأحزاب، وهى مرتبة لا تتساوى مع تاريخه العريق وزعاماته التقليدية والتاريخية. ونتمنى للوفد أن يستعيد صدارته المستحقة، خاصة أنه يتم بعد سنوات قليلة مائة عام من عمره.
سابعاً: انهيار فى تمثيل المحسوبين على تيارات الإسلام السياسى، حيث حصلوا على حوالى 2% من مقاعد البرلمان، وهى نسبة تناقض تماماً ما تنبأ به بعض المحللين قبل الانتخابات، وتناقض كذلك توقعات تلك المجموعات، وتصوراتها لمدى جماهيريتها، النتائج تقول إن عموم المواطنين أقاموا قطيعة شبه تامة مع تلك المجموعات والجماعات، وإن الخطاب، الذى قام على خلط الدين بالعملية الانتخابية انتهى دوره وزمانه، ليس الأمر هكذا فقط، بل وجدنا بعض الأسماء حقق أصحابها نجاحاً من الجولة الأولى، أى بلا إعادة، ومعظم رصيدهم يتركز فى محاربة تلك التيارات ورفضها، والأسماء معروفة للجميع.
ثامناً: يرتبط بذلك سقوط أصحاب الفتاوى السياسية، الذين ملأوا الدنيا ضجيجاً طوال عام عن أن نسبة 55% من أعضاء البرلمان سوف تذهب إلى رموز الحزب الوطنى، و35% سوف تكون لتيارات الإسلام السياسى والباقى لكل الأحزاب والتيارات الأخرى، وإن عكس البعض النسبة المتوقعة لتكون 55% للخلايا النائمة وللمعلنة من تلك التيارات، ومن أسف أن الذين أطلقوا ذلك أسماء كبيرة وعريقة فى «التحليل السياسى».
تاسعاً: نسبة لا يستهان بها من الناجحين يدخلون فى الدوائر الشعبوية، التى قد لا ترضى عنها ولا تستريح لها بعض النخب الثقافية والسياسية، والأدهى أن تلك النخب فوجئت بفوز هؤلاء، وهذا يعنى أنهم ليسوا محتكين بالواقع، وليس لديهم الاستعداد لذلك، صحيح أن بعض المرشحين نافسوا هؤلاء الشعبويين، وهُزموا أمامهم، لكن الصحيح أيضاً أن النخب اكتفت بالتحليل، ولم تتنازل لمساندة زملاء لهم خاضوا الانتخابات، ولا حتى عبروا عن أى موقف مساند لهم، فقط تركوهم يرسبون، وراحوا يتباكون.
عاشراً: ارتفاع المستوى التعليمى للأعضاء الناجحين، ولا أريد التوقف عند تصنيف الناجحين طبقاً لشهاداتهم التعليمية، وأنا لا أحب ذلك التصنيف، فقط أقول إن صفة العضو، الذى «يحمل» شهادة محو أمية اختفت تماماً هذه المرة، وفى برلمانات سابقة كانت هناك مآسٍ من هذا النوع، حدث فى أوائل التسعينات أن أحد النواب كان أمياً، ولما طُعن عليه، شكل المجلس لجنة لانتخابه، وكان يرأسها برلمانى ورجل قضاء سابق، ولما كان العضو أمياً بالفعل، نصح بأن يقوم بتجبير يده اليمنى، وكُتبَ فى المحضر أنه لم يستطع الكتابة لإصابة يده، لكن اللجنة مطمئنة إلى أنه يجيد القراءة والكتابة.