- عند مالك بن نبى، ليس الإسلام هو الحضارة، الإسلام وحى نزل من السماء بينما الحضارة لا تنزل من السماء إنما يصنعها البشر عندما يحسنون توظيف ملكاتهم فى التعامل مع الزمان والمكان، الإسلام لا يصنع الحضارة بذاته، إنما بالبشر عندما يفهمونه على حقيقته فيتولون التفاعل الجاد به وخلطه بالتراب والزمان والمكان فيصنعون من ذلك حضارة، الحضارة الإسلامية هى هذا التفاعل الجاد بين الإنسان والتراب والوحى، قد ينجح المسلم فى هذا التفاعل فيصنع الحضارة، وقد يفشل وهو المسلم وينجح غيره أى غير المسلم فينتج حضارة بقيم ونيات غير إسلامية، لأنه أحسن التعامل مع سنن الله توظيفاً جيداً لعقله وللوقت وللتراب.
- الإنسان والتراب والوقت هى المعادلة التى تنتج حضارة. ويحلل مالك بن نبى عناصرها خلال كتابه «شروط النهضة»، حيث تبدأ النهضة من بناء الإنسان ومن معرفته لذاته «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، ويبدأ هذا التغيير منذ أن يعرف رسالته على هذه الأرض من خلال دين يتبعه ولا يمكن للحضارة أن تقوم فى جهل الوثنية، فقبل نزول القرآن لم يكن العرب سوى بدو يعيشون فى صحراء مجدبة وعندما نزلت كلمة «اقرأ» غيرت مسرح التاريخ لقرون عديدة، فالحضارة لا تظهر فى أمة من الأمم إلا فى صورة وحى يهبط من السماء، أو هى تقوم أسسها فى توجيه الناس نحو معبود غيبى بالمعنى العام، فكأنما قدر للإنسان ألا تشرق عليه شمس الحضارة إلا حيث يمتد نظره إلى ما وراء حياته الأرضية، أو بعيداً عن حقبته إذ حينما يكتشف حقيقة حياته الكاملة، يكتشف معها أسمى معانى الأشياء التى تهيمن عليها عبقريته، وتتفاعل معها.
- يجب أن يتعلم الإنسان المسلم قيمة الوقت وهو العامل الأساسى فى نشوء الحضارات: «إن من الصعب أن يسمع شعب ثرثار الصوت الصامت لخطى الوقت الهارب»، ويروى لنا تجربة فريدة لألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية التى خلفت وراءها ألمانيا عام 1945 قاعاً صفصفاً، حطمت فيها كل جهاز للإنتاج، ولم تُبقِ لها من شىء تقيم على أساسه بناء نهضتها، وفوق ذلك فقد تركتها لتصرف شئونها تحت احتلال أربع دول، ومع هذا بدأ النشاط يسرى فى نفس الشعب الألمانى فى سنة 1948 ولم تمض عشر سنوات حتى بدأت الصناعة الألمانية الضخمة، فقد فرضت الحكومة منذ 1948 على الشعب الألمانى كله، نساء وأطفالاً ورجالاً، التطوع يومياً ساعتين، يؤديها كل فرد زيادة على عمله اليومى وبالمجان، من أجل الصالح العام فقط، وسمى هذا التجنيد العام وهو العمل للمصلحة العامة، هذه من المعجزات الاجتماعية التى أتت بها ألمانيا كان للزمن فى إخراجها حظ موفور، يمكننا أن ندرك قيمة الوقت مباشرة فى عودة الحياة الاجتماعية والاقتصادية لشعب لم يَبقَ لديه من الوسائل إثر الحرب الثانية إلا العناصر الثلاثة: الإنسان والتراب والزمن، كل فرد يؤثر فى مجتمعه بثلاث مؤثرات: بفكره، ثم بعمله، ثم بماله.
- يرثى «بن نبى» لحال الثقافة اليوم وتشويه مفهومها فلم نعد نرى فى الثقافة إلا المظهر التافه، فهى عندنا طريقة لنصبح شخصية بارزة، أو علماً يجلب رزقاً، والحقيقة أننا قبل خمسين عاماً كنا نعرف مرضاً واحداً يمكن علاجه، هو الجهل والأمية، ولكننا اليوم أصبحنا نرى مرضاً جديداً مستعصياً هو (التعالم)، وإن شئت فقل: الحرفية فى التعلم، والصعوبة كل الصعوبة فى مداواته، لأن عقل هذا المريض لم يقتنِ العلمَ ليصيّره ضميراً فعالاً، بل ليجعله آلة للعيش، وسلماً يصعد به إلى منصة السلطان، وهكذا يصبح العلم مسخة وعملة زائفة، غير قابلة للصرف، وإن هذا النوع من الجهل لأدهى وأمر من الجهل المطلق، لأنه جهل حجرته الحروف الأبجدية، وجاهل هذا النوع لا يقوم الأشياء بمعانيها ولا يفهم الكلمات بمراميها، وإنما بحسب حروفها، فهى تتساوى عنده إذا ما تساوت حروفها، وكلمة «لا» تساوى عنده «نعم» لو احتمل أن حروف الكلمتين متساوية، كما يؤكد على البعد الأخلاقى والجمالى للرسالة الحضارية، فالجمال هو الإطار الذى تتكون فيه أى حضارة، فينبغى أن نلاحظه فى نفوسنا، وأن نتمثل فى شوارعنا، وبيوتنا، ومقاهينا، مسحة الجمال نفسها التى يرسمها مخرج رواية فى منظر سينمائى أو مسرحى، يجب أن يثيرنا أقل نشاز فى الأصوات، والروائح، والألوان، كما يثيرنا منظر مسرحى سيئ الأداء، إن الجمال هو وجه الوطن فى العالم، فلنحفظ وجهنا، لكى نحفظ كرامتنا، ونفرض احترامنا على جيراننا، الذين ندين لهم بنفس الاحترام.