رأيت فيما يرى النائم أننى أقترب فرحاً جذلان من الحضرة النبوية الشريفة، أحمل بشارة أننا نحتفل هذه الأيام بالمولد النبوى، نقيم السرادقات، ونعقد الاحتفالات، ونصنع الحلوى وأشكالها وعرائسها تعبيراً عن إجلالنا للذكرى وصاحبها، ولكنى فوجئت فيما يرى النائم بعدم الرضا بما نقيم ونعقد، ونزف ونفرح.. لماذا؟! جاءنى هاتف المنام أن الاحتفال بمولد النبى يكون بإحياء سُنته، قلت لنفسى: وهل نحن قصرنا فى إحياء السُّنة النبوية؟! نحن نطبع الأسفار التى جُمعت فيها، وندرسها ونتدارسها، ونجتهد فى الشروح والتفاسير، ونقيم جمعيات السُّنة وجمعيات العشيرة المحمدية وجمعيات آل البيت وجمعيات الأشراف المنتسبين إلى شجرة النبوة. أجابنى الهاتف بأن إحياء السُّنة يكون أساساً فى قلب المؤمن، فى فكره وسلوكه وعمله، فى اقتدائه وتأسِّيه بسنّة نبيه، فى عبادته، فى تطامنه إلى ربه وتواضعه، فى إيثاره وفى شمائله وخُلُقه الذى به أدَّبه ربه فأحسن تأديبه، فيما نقله إلينا وسنَّهُ والتزمه من وحى ربه، وتركه لنا هدياً نسير عليه، وقال لنا: «تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلّوا أبداً: كتاب الله وسنّتى»، وأوصانا بذلك الله عز وجل، فقال: «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» (الأحزاب 21).
طفق الهاتف يذكِّرنى بأنه عليه الصلاة والسلام أوصانا بالمحبة وبأنها أساس الإيمان، وبأنه لا إيمان بلا محبة: «لا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شىء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم»، وتعددت وصاياه بمفاتيح هذه المحبة، ولكننا تركنا المحبة، وأعطيناها ظهورنا، وزَرَعْنَا الكراهية وأفشيناها والتمسنا إليها السبل، وتركنا السلام وطفقنا نروّع المسلمين وغير المسلمين، ونتفنن فى الإرهاب والإهلاك، ولا نبالى بسنّته ولا بما أمَرنا به الذكر الحكيم الذى نقله إلينا.
طفق الهاتف يذكِّرنى بسّنته عليه السلام فى الرحمة والتراحم وفى حرمة الدماء، وكيف نقل إلينا ما استنه القرآن من قدسية الروح، حتى فى الطير والحيوان، وأنه ليس من الإسلام قتل النفس التى حرم الله، وأن أول ما يُقضى فيه بين الناس يوم القيامة فى الدماء، وينبهنا إلى أن زوال الدنيا أهون على الله من قتل نفس بغير حق.
سألنى: أليس أجدى إحياءً لسنته أن تنفقوا أموال «حلاوة المولد» لإطعام الأفواه الجائعة
ولكن ها قد ظهر من يقتلون ويذبحون ويسفكون الدماء، ويذبحون الناس بأسوأ مما تُذْبح بهائم الأنعام، ناسبين أنفسهم وعملهم الضال إلى الإسلام، ليقبحوه فى نظر العالمين، ويقلبوا الدنيا على الإسلام ورسوله والمسلمين، دون أن نضرب على أيديهم وندفع عن الدين الحنيف ما يسعى هذا الضلال إلى إلصاقه به!
■■
تساءلت فيما يرى النائم، هل هذا من واجب الناس أم من واجب الحكومات، أليس ذلك لأولياء الأمور؟! ولكن الهاتف ردَّ علىَّ بأن الحكام منا، والتقصير مشترك بيننا وبينهم، وأضاف أن الشىء بالشىء يذكر، فقد حذرنا عليه الصلاة والسلام فى سنّته من السلطة وحب السلطة، حتى قال لأحد صحابته عن الولاية: «إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزى وندامة، إلاَّ لمن أخذ بحقها وأدى الذى عليه فيها»، وقال لمن سأله إمارة: «لا تطلبوا الإمارة، فإنك إن أُعطيتها من غير مسألة أُعنت عليها، وإن أُعطيتها من مسألة وكلتبها »، وأضاف الهاتف يذكِّرنى بأننا عشقنا السلطة عشقاً مريضاً، وأهرقنا فى سبيلها الدماء، حتى قتل الابن أباه، والأب ابنه، والأخ أخاه سعياً إلى هذه السلطة التى كلف بها الناس على خلاف ما أوصانا به عليه السلام فى سنّته، فكيف انفتح هذا الباب على مصراعيه فور أن انتقل نبينا إلى الرفيق الأعلى، وكيف غاب عنا الإسلام وكتابه الحكيم وسنّة نبيه، حتى لم يمض قرن دون أن تلوثه الدماء التى سالت قرباناً للعشق المريض للسلطة، وما اقترن بذلك من مآسٍ منكرة لا صلة لها بالإسلام وأحكام ومبادئ وقيم الإسلام؟!
■■
يبدو أن استطرادى جَرَّ إلى مأخذٍ آخر خالفنا فيه كتاب الله وسنّة رسوله، فلم يدعنى الهاتف إلاَّ وذكَّرنى بوصية القرآن المجيد لنا: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» (آل عمران103)، وكيف أن سنّة النبى عليه السلام أكدت كثيراً على هذا المعنى، وأزالت من أمامه الحواجز، فذكّرتنا بأننا كلنا لآدم، وآدم من تراب، وأن الله تعالى قد جعلنا شعوباً وقبائل لنتعارف وأن أكرمنا عند الله أتقانا، وحثتنا ألاّ نتقاطع أو نتدابر أو نتحاسد، وأن يد الله مع الجماعة، وأن الجماعة رحمة والفرقة عذاب وأن من شَذَّ شَذَّ فى النار، وأن الإسلام واحد، ولكن ما كاد عليه الصلاة والسلام يفارقنا حتى اندفعنا إلى الفرقة وإلى الخلافات التى لا حصر لها، بين فرقٍ وأحزاب ادعت الانتساب للإسلام، فخرج خوارج عن أهل السنة والشيعة، وظهرت فرق الجبرية والجهمية والقدرية، والمشبهة والمرجئة، وغيرها، وإذا بالإسلام الذى أخبرنا نبينا أنه واحد، يتعدد شيعاً وعراكاً فى مفاهيم هؤلاء، وإذا بالوحدة تتبعثر، وإذا بالفرقة تشيع، وإذا بذلك يختلط بحب السلطة أو يتوارى وراءها، فيتجذّر الخلاف، وتمضى السنون فإذا بجماعات ما أنزل الله بها من سلطان، تتوارى كذباً بالإسلام، وتعتنق الإرهاب والإهلاك وسفك الدماء، وتتخذ مسمّيات مختلفة لمواراة أغراضها، وكلها ضد الإسلام والمسلمين، يكبّرون وهم يقتلون الناس ويذبحونهم ذبح الشاة، يقول لهم ربهم ونبيهم «ولذكر الله أكبر » فإذا بهم يذكرون اسم الله ويكبرون ويهللون وهم يسفكون دماء البشر، ويشوهون سيرة النبى الذى أرسله ربه رحمةً للعالمين، والذى كان بذاته رحمة مهداة يدعو إلى الرحمة والتراحم ويحض على السلام والمحبة، بينما المسلمون الأسوياء يتفرجون، دون أن يقاوموا هذه الآثام أو يجففوا ينابيع هذا الضلال الذى جعل يضرب فى صلب الإسلام، ويشوِّه وجهه الصبوح، وقيمه النبيلة!
■■
عاجلنى الهاتف بأننا فى هذا الابتعاد عن الإسلام وعن سنّة نبينا الذى نحتفل بمولده دون أن نلتزم سنّته، قد خالفنا ما علَّمَنا إياه، أن الإسلام دين حياة، لا يحتقر الحياة ولا يزدريها، وأن غايته عمار هذه الحياة لا هدمها وبث الموات والدمار والخراب فيها، وطفق الهاتف يذكِّرنى بأنه بلغ من سنّة النبى عليه السلام فينا أن أوصانا بأنه إذا قامت الساعة وفى يد أحدنا فسيلة (الشتلة الصغيرة) فليغرسها، وبشارته لنا أن من نصب شجرة وصبر على حفظها والقيام عليها كان له صَدَقة عند الله على كل شىء يُصاب من ثمرها، وكيف حدَّثنا بالنعم التى ذكَّرنا بها القرآن المجيد، وبوجوب السعى فى مناكب الأرض، وبفضيلة الزرع والإنبات لإثراء هذه النعم وإثراء الحياة، وكيف أن الدين الذى هدانا إليه دين سلام ومحبة، وأنه لم ينزل لبث العداوة والكراهية، ولا لِبث الدمار والخراب، وإنما لإيمان وهداية الناس، وعمار الحياة.
شعرت بالخجل فى المنام أننا بالفعل تركنا هذه السنّة القويمة الواضحة، وتركنا من يخرج عن هذه السنّة من بيننا، أو من المنتسبين كذباً إلى ديننا، وأن حالنا أمام العالم قد صار اليوم مشوهاً، يحسب كثيرون أننا على دين دستوره العنف والإرهاب، والقتل والذبح وسفك الدماء، والتدمير والإهلاك والخراب!!
لم يمهلنى وعاتبنى فى مرارة: ألم تعرفوا أن البر والنجدة من سنته.. فماذا فعلتم لفقراء المسلمين الذين يموتون جوعاً أو من يقتلون فى بورما والفلبين وأفريقيا الوسطى؟
ولم يمهلنى الهاتف فأضاف عاتباً فى مرارة، ألم تعرفوا أن من سنّته عليه الصلاة والسلام البرّ والنجدة، فماذا فعلتم لبرّ ونجدة فقراء المسلمين الذين يموتون جوعاً، وماذا صنعتم لنجدة ومساعدة من يُقتلون من المسلمين فى بورما والفيليبين وأفريقيا الوسطى وغيرها من البلدان التى جارت عليهم وتنتهك حرماتهم وتصادر حيواتهم وتنكل بهم، بينما فيكم أثرياء لديهم من الثروات ما لا يمكن إحصاؤه؟! ألم تعرفوا أن من سنته عليه الصلاة والسلام ألاّ يبيت مسلم وجاره جوعان، هل جبرتم جوع وظمأ بؤساء يعيشون بينكم ويموتون جوعاً وظمأً، أليس أجدى إحياءً لسنته أن تنفقوا أموال «حلاوة المولد» على إطعام هذه الأفواه الجائعة؟! هل غاب عنكم أن هذا هو الإحياء الحقيقى لسنّة نبى البرّ والرحمة الذى كان للبشرية رحمة مهداة؟!
تمنّيت أن أستيقظ سريعاً من المنام الذى أقبلت عليه فرحاً مسروراً، لأن الحجة قد ألزمتنى وألجمتنى، ولأن الوفاض فرغ ولم يعد به أعذار، ولأن واجب الإنصاف يقتضينى الإقرار بأننا فرطنا فى إحياء سنّة النبى الحبيب المصطفى، وأنه كان أجدر بنا بدل الاحتفالات والمهرجانات وحلاوة المولد، أن نحيى سّنته إحياءً حقيقياً فى قلوبنا وفى حنايانا وضمائرنا، وأن نهتدى بها ونلتزمها فى سلوكنا وأعمالنا.
انتفضت من المنام حسيراً، باكياً على حالنا وما فرطنا فيه، آسياً على تقصيرنا فى حق الدين الذى هدانا الله تعالى إليه، وخجلاً من المظاهر التى شدت فرحتنا بعيداً عن «جوهر» جلال النبوة ومولد الرسول، وعن «المعنى » الذى يجب أن نحييه فى قلوبنا وفى أعماقنا وفى ضمائرنا، خرجت من المنام ولسان حالى يعتذر إلى النبى المصطفى عليه الصلاة السلام: عفواً يا رسول الله!