هل ينتظر أحد منا فعلياً شيئاً مختلفاً وفارقاً من أى من السادة المحافظين الجدد، الذين تم تكليفهم منذ أيام؟ هل ينتظر منهم المواطن القاطن فى تلك المحافظات التى تم إجراء الإحلال والتبديل فيها أن تشهد محافظته نقلة نوعية ما، ولو على سبيل الاستثناء، والسؤال الأهم وإن كان سابقه أيضاً فائق الأهمية، لكن هل ينتظر «النظام» أن يكون السادة المحافظون عوناً حقيقياً له من أجل الوصول إلى النجاح، وأن يشكلوا جسراً فاعلاً لتنفيذ طموحات النظام من أجل تحقيق وتغيير طبيعة الصورة السلبية لأداء أجهزة الدولة، أم أن هذا المنصب، وهذا الكيان الديناصورى المترهل المسمى بالمحافظة أصبح هو المستنقع، الذى تغوص فيه أقدام أى نظام حكم، خاصة وحديث الفساد الذى تعدى «الركب» ووصل للأعناق هو من قبيل مسلمات التعايش، التى نمر عليها ويمر معنا النظام عليها، وكأن الجميع يطالع هذا الكائن الخرافى من خلف زجاج سميك لا نستطيع أن نمد إليه أيدينا لنلمسه، والنظام أيضاً «أى نظام» اعتاد أن يلقى إليه بالطعام الذى يبقى على حياته من خلف نافذة آمنة، خشية أن يلتهم يديه فى حال الاقتراب.
واقعة الإطاحة بمحافظ الإسكندرية على خلفية الفشل فى التعامل مع موجة أمطار غزيرة ضربت المدينة وشلت حركتها، كان فى بعض تفاصيلها نوعاً من الاقتراب لعبور الحاجز الزجاجى السميك، فقد رحل المحافظ، وفقد منصبه وبقيت الإدارات الفاشلة والفاسدة فى مواقعها، التى هى بالأساس ليست من أدوات المحافظ ولا يملك عليها سلطاناً فعلياً، ولجأ النظام الذى لم يكن يمتلك رفاهية العلاج إلى العملية الجراحية باستخدام إمكانيات القوات المسلحة، وهى آلية معمول بها فى الكوارث الطبيعية بكافة الدول، لكن دلالتها عندنا أن بنية الجاهزية لدى أى محافظة خارج الحسابات الحقيقية، والجاهزية المشار إليها فى صلب خطورتها هى الجاهزية البشرية وآلية العمل المعوقة ومكبلات القرار الإدارى، وهذا ما لمحه النظام سريعاً، فقفز من فوق هذا المستنقع، ليتعامل ليس بإمكانيات خرافية، إنما بمنظومة بشرية قادرة على الإنجاز، ولديها إرادة العمل وانضباط التفاصيل الصارم.
أصاب الرئيس الهدف مباشرة، ومن أقصر الطرق، عندما اقتصر خطاب تكليفه للسادة المحافظين الجدد على مهمة واحدة، وهى ضمان وصول خدمات الدولة للمواطن، وأن تصل بالجودة اللائقة التى يحرص النظام على توفيرها وتطويرها. مهمة غالية ومقدرة، لكن احتماليات تعثرها فى الطريق وسحب أقدامها ناحية المستنقع تفوق بمراحل إمكانية النجاح فى التنفيذ، فكافة آليات العمل التى من المفترض أن يستخدمها المحافظ لا تتبعه، إنما هى فروع تابعة للوزارات المختلفة، وقدرة الرقابة على حسن وانضباط أدائها به مساحة أدبية تفوق أى سلطة قانونية يمتلكها المحافظ، لتتراجع بدورها الأجهزة الرقابية التى يمكنها من ضبط الأداء بصورة أو بأخرى، لتسقط هى الأخرى فى فخ التناقضات والفجوات التشريعية ولوائح العمل المتضاربة والمتعارضة فى آن.
إذاً، ما الذى يبقى بعد كل هذه المكونات والألغام المعدة بعناية والقادرة على تبديد أى جهد ليس لمحافظ نشيط ونزيه فقط، لكنها كفيلة أيضاً بتدمير سمعة أى نظام سياسى يمتلك مشروعاً حقيقياً للتنمية والتحديث ويطمح فى تنفيذه، والذى يبقى قادراً على الحياة هم أمين الشرطة ومفتشو التموين والصحة والإشغالات ومانحو التراخيص، وقبلهم الإسكان والزراعة والرى وكافة الجيوش الجرارة من موظفى إدارات بعينها يتعاملون يومياً مع المواطنين فى خدمات الدولة، المفترض تحديث وتطوير تقديمها لهذا المواطن، وأمامهم تتفاوت درجات نجاحه فى الصعود أو «فقط» الإفلات بنفسه أو بمصنعه أو باستثماره إجمالاً، يتشكل النجاح بالقدرات الخاصة لكل فرد أو كيان فى التعامل مع تلك المنظومة وفق أدبيات فسادها أو ترهلها، هذا التكوين الغامض القابع خلف الزجاج السميك لم يتقدم أحد خطوة فى طريق تفكيك منظومته التشريعية، وهو ليس مستحيلاً بالمناسبة، هو فقط يحتاج الضربة الأولى التى تؤمن بأن هذا النظام «السيستم» هو سبب التراجع المخيف الذى بتنا جميعاً بصدده فى معظم مجالات حياتنا، ومن غير هذه الضربة المعلنة سيبقى الديناصور خلف زجاجه السميك ينظر إلينا فى بلاهة وكسل، ويشير إلينا بيده ملوحاً، فنحن العابرون، وهو المقيم أبداً، نحن الحالمون بالغد الآخر، وهو القادر على النفاذ من أسفل أعتى الأبواب صلابة.