فى مصر أزمة بطالة طاحنة، نشعر جميعنا بها، وتسعى الحكومات المتوالية إلى إقامة مشاريع تنموية، علّها توفر فرص عمل للحد من تلك الأزمة، لكن بإزاء هذه البطالة هناك مشهد آخر، فى مصر أيضاً، وهو ما يمكن أن نسميه «العمالة الأجنيبة»، نعم فى مصر عمالة أجنبية منتشرة.
فى منطقة «شق التعبان» بالقاهرة هناك مئات الورش والمصانع التى تنتج الرخام، بعض هذه المصانع والورش كل العمال بها من الصين، وحين تسأل: لماذا العمالة الصينية؟ يرد أصحاب تلك المنشآت بأن العامل الصينى يعمل بأجر لا يقبل به العامل المصرى، وأن مطالبه المالية مقبولة ومعقولة، فضلاً عن التزامه بمواعيد العمل والحرص على الإتقان، وهذا -مع الأسف- ما لا يتوفر، بنظر صاحب المصنع، فى العامل المصرى.
أحد المتخصصين فى هذا المجال العملى يقول إن العامل الآسيوى عموماً لديه ثقافة ساعات العمل، بينما نحن لسنا كذلك، يأتى ميعاد الصلاة فيترك العامل عمله لأداء الصلاة ولا يمكن لأحد أن يمنعه من ذلك، وبدلاً من أن يؤدى الصلاة فى دقائق فإنه يقضى حوالى نصف ساعة ما بين الوضوء وانتظار إقامة الصلاة ثم الصلاة، رغم أنه من الناحية الدينية يمكنه أن ينتظر حتى انتهاء ميعاد العمل ويؤدى الصلاة، ولن تفوته، وفى النهاية هذا تضييع لوقت العمل، يفوز العامل بالثواب عند الله وأدفع أنا الثمن والمقابل المادى!!
ويكون الرد فى هذه الحالة أن القانون يجب أن يُلزم صاحب المصنع بالعمالة المصرية والإجابة جاهزة لدى صاحب المصنع أنه لو حدث ذلك واستجاب لمطالب العمالة فإنه سوف يخسر ومن ثم فإنه يفضّل أن يغلق المصنع ويبحث عن الاستثمار والعمل فى بلد آخر، والبعض فعل ذلك.
أصحاب المصانع لا يكتفون بذلك، يذهب أحدهم إلى التذكير بما جرى فى العين السخنة لإحدى الشركات العربية، حين اضطرت لمضاعفة أجور العمالة، ومع ذلك لم تتوقف المطالب المادية، وكان أن اختارت الشركة الانسحاب نهائياً، لأنها لا تتحمل تلك التكاليف.
غير العمالة الصينية فى ورش ومصانع الرخام، هناك الخادمات ومديرات المنازل اللاتى يتم استقدامهن من بعض دول آسيا وأفريقيا، وبعض هذه الحالات يمثل خطورة على لغة الأطفال، ذلك أن تلك المربيات أو الخادمات لا يُجدن، على الأغلب، اللغة العربية، ومن ثم فإنهن لا يساهمن فى تعليم الطفل اللغة الأم، وقد تأخذه إلى لغة أجنبية أخرى، بمدلولات ثقافية غير تلك التى نتعلمها، وحين تسأل: ولماذا لا تتولى فتيات مصريات ذلك؟ يأتيك الرد بأن المصرية لا تقبل أن تعمل فى هذه المهنة، والبعض منهن يفضّلن بيع علب المناديل فى الشوارع، وتلك وسيلة من وسائل التسول أكثر منها مهنة، على أن يعملن فى وظيفة مديرة المنزل أو مربية طفل أو خادمة.. إلخ.
فى بعض المزارع أو المصانع هناك عمالة آسيوية، تصور فى بلد «الفلاح المصرى» هناك عمال آسيويون يعملون بالفلاحة!!
الظاهرة ليست جديدة، ربما منذ أكثر من عقد ونحن نعيش تلك الحالة، وبعض هؤلاء العمال يأتون بتصاريح من وزارة القوى العاملة وبعضهم لا يحصل على مثل تلك التصاريح، وتلك ليست المشكلة الحقيقية، المشكلة تكمن فينا نحن وعلى أكثر من صعيد.
نحن كمجتمع لدينا ثقافة لا تحترم العمل لذاته، بل نحترم أعمالاً ونحتقر أعمالاً أخرى، فمع اتساع نطاق التعليم الجامعى، صرنا «بلد شهادات»، بات العمل اليدوى يُنظر إليه على أنه فى درجة أقل، اجتماعياً ومعنوياً، حتى لو كان عائد العمل اليدوى يفوق فى عائده المادى العمل المكتبى. تأمل نظرتنا إلى السباك والحداد والنجار مثلاً، رغم أن عائد عمل كل منهم قد يفوق راتب الوزير بمراحل.
وتلك الظاهرة ليست جديدة فى التراث العربى، هناك نظرة متدنية لكثير من المهن وللعامل الأجير.. وكان المفترض أن تقوم الجامعات بتغيير تلك النظرة، لو أنها اهتمت بإنشاء مراكز تدريب ومعاهد لتعليم الحرف، على أن يمارسوا بعد التخرج تلك الحرف فعلياً فى الشارع والمجتمع، ولا يصبحوا فى النهاية موظفين حكوميين يعملون فى بعض المكاتب البيروقراطية.
أعرف أن بعض جامعاتنا، تحديداً جامعة قناة السويس، تقيم مراكز تدريب وتتعاون مع الجامعات الصينية فى هذا المجال، كما أن مؤسسة «مصر الخير» أرسلت أعداداً من طلابنا إلى الصين، بعد حصولهم على الثانوية العامة للتخصص والتدريب على بعض الحرف، وأتمنى أن نتوسع فى هذا المجال، وأن تتغير نظرتنا الاجتماعية إلى العمل والحرف اليدوية.. إننا كما قسمنا التعليم الجامعى إلى كليات للقمة وأخرى ليست كذلك، قسمنا العمل أيضاً إلى عمل مكتبى بيروقراطى «الميرى» واعتبرناه درجة أولى أو متميزة، حتى لو كان صاحبه يحصل على مرتب وحوافز دون أن يبذل أى مجهود أو يقدم أى إضافة أمام العمل والحرف اليدوية، واعتبرناها وأصحابها درجة ثانية أو عاشرة، حتى لو كان أصحابها منتجين فعلياً ولا غنى للمجتمع عنهم.
ويجب القول إن أصحاب العمل يتحملون جانباً غير قليل من المسئولية، بعضهم لم يهتم بتربية وبناء كوادر من العمالة المصرية، ينفقون على تدريبهم وتأهيلهم، ويتيحون أمامهم فرص الإبداع والتألق، ثم تربية أجيال جديدة فى هذه المجالات، لاحظ أن بعض أصحاب الأعمال تضاغطوا مع الدولة لفترة من أجل تعديل بعض القوانين والإجراءات لتيسير أعمالهم، وهذا حقهم، أو فى مجال تخفيف سداد بعض الديون بالتقسيط وتأجيل السداد، وهذا أيضاً حقهم، هم أيضاً ضغطوا لتيسير إجراءات التراخيص والعمل، وهو ما بات يُعرف باسم «الشباك الواحد» وللمرة الثالثة ذلك حقهم، لكنهم لم يتواصلوا ولا تضاغطوا مع المؤسسات الأكاديمية والتعليمية لتأسيس مراكز تدريب أو كليات متخصصة فى مجالات الأعمال والحرف اليدوية.
الغريب أن مصر فى العصور الوسطى عرفت ازدهاراً للأعمال والحرف اليدوية، وكانت مصدر ازدهار اقتصادى واجتماعى وحضارى، حتى إن السفاح سليم الأول حين احتل مصر سنة 1517 وأراد تدميرنا فإنه سحب معه الكثير من الحرفيين كى يعمّروا الأستانة، فأخذ معه الرخّامين والنحّاسين والتجاريين والبنّايين وغيرهم، وحزن المصريون أن أُخرجوا من ديارهم وبلادهم قهراً مع الغازى سليم الأول. اشتهرت مصر وعرفت بصناعها وحرفييها، ولكن مع العصر الحديث تراجعت هذه المهن لصالح «وظائف الميرى» أو الوظيفة الحكومية، وترهّل الجهاز الإدارى وتضخمت البيروقراطية المصرية لتبتلع الجزء الأكبر من الميزانية وتراجعت المهن والأعمال اليدوية، حتى بات المصرى يأنف من ممارستها ولا يذهب إليها إلا مضطراً أو مجبراً، ومن أسف أن المجتمع جارى تلك الحالة، فلم يرفع الروح المعنوية للحرفيين، وراحت وسائل الإعلام بمعناها الواسع تسخر منهم، إذا امتلك السبّاك سيارة ملاكى سخرنا منه وتهكمنا أو حقدنا عليه!!
فيلم «انتبهوا أيها السادة» وُضع خصيصاً للحط من مهنة «الزبال»، وهى مهنة مهمة، ولما تراجعت تلك المهنة رأينا القمامة تملأ الشوارع والميادين العامة، وتراجع مستوى القاهرة عن مستوى المدن العالمية فى مجال النظافة.. وقس على ذلك أموراً كثيرة فى حياتنا. ثقافة أن العمل شرف وواجب تراجعت، صار العمل عندنا يعنى العمل المكتبى فقط، وبإزاء ذلك كله، بات الشاب أو الفتاة المصرية تستمرئ البطالة ومعاناتها بدلاً من ممارسة عمل أو حرفة يدوية، ولذا ليس غريباً أن نرى العمالة الأجنبية فى بلادنا التى تعانى من البطالة!!