كنت أبحث عن مكان لسيارتى فى موقف سيارات أحد المولات الضخمة، وبينما أنا كذلك اضطررت إلى التوقف أمام أحد التقاطعات المخصصة لعبور الزبائن من وإلى بوابة المتجر، وكنوع من الملل أخذت أتأمل العابرين أمامى الذين كانوا بضعة أشخاص وعائلة كبيرة.. لفت انتباهى مشهد ربما رأيته كثيراً لكنى لم أكترث به حتى تلك اللحظة، كانت هناك سيدة تعبر التقاطع مسرعة وقد بدت حانقة ومشغولة بهاتفها الخلوى، وكانت هناك فتاة صغيرة تلاحقها، توحى نظراتها ومظهرها بأنها «خادمة» لتلك السيدة.. بنت ريفية صغيرة السن ترتدى عباءة سوداء بسيطة وتحمل عدداً مهولاً من الحقائب المملوءة بمشتريات ست الهانم.. كادت البنت تسقط من ثقل الحقائب فرمقتها السيدة بنظرة حادة ثم تابعت سيرها وهى تتأفف.. لقد كان مشهداً مزرياً بحق.. دفعنى للتساؤل فى أسى: ما الذى يدفع تلك البنت بحق الجحيم أن تقبل عملاً مهيناً وشاقاً كهذا؟ عملاً يذكرنا بأعمال الجوارى والعبيد فى العصور القديمة؟ فوجدت نفسى أهمهم فى حزن: إنه الفقر يا عزيزى..
ومن قال إن عصر الجوارى والعبيد قد انتهى؟ وما الفرق الجوهرى بين جارية اشترتها سيدة لتقوم بالتنظيف والطبخ وحمل الأمتعة، وبين تلك الفتاة التعيسة؟ لقد ذهب الكثيرون من الاقتصاديين والفلاسفة إلى القول بأنه لا فرق بين استعباد الشخص وبين توظيفه بأجر زهيد تحت تهديد الجوع والفقر!
إن العمل مقابل أجر يسمح فقط بسد الاحتياجات الضرورية التى تُبقى الإنسان على قيد الحياة إنما هو عمل يندرج تحت العبودية المعاصرة... إنها عبودية الأجر.
والعبد بالمفهوم القديم كان يكلف سيده الكثير من المال لشرائه، وكان بذلك يتحمل مخاطر ضياع هذا المال إما بموت أو هروب العبد، وبالتالى فإن العقلاء من الأغنياء قديماً كانوا يوفّرون الحد الأدنى من طعام وكسوة وسكن للعبيد ولا يرهقونهم بالأعمال المضنية، ليس بدافع الشفقة والرحمة، وإنما بدافع الخوف من الخسارة.. إن العبد قديماً كان شيئاً ثميناً بالنسبة لسيده.
أما هذه الأيام، وفى بلاد مثل بلادنا، حيث لا قانون ينصف الأجير، ولا دولة تنصر الكرامة الإنسانية، تأخذ العبودية أشكالاً أكثر ذلاً وقسوة.. ففى بلادنا، يستأجر صاحب العمل أحد التعساء بأجر زهيد يكاد يسد قوت اليوم، فيحفظ بذلك رأسماله ويلقى على العامل مسئولية إبقاء نفسه على قيد الحياة، يعتقد ذلك العامل المسكين أنه حر، لكن فى الحقيقة يكون عبداً مكبلاً بقيود الاختيار بين «كل عيش وانت ساكت» أو «روح موت من الجوع»!
كم من عبيد بالأجر نراهم فى بلادنا كل يوم ولا نكترث، فى بلاد تدين بدين شَرع الزكاة حماية للفقير من العبودية والإهانة والذل، ومع ذلك لا يرى حكامها ومترفوها بأساً فى ترك الفقراء والمساكين يقعون فريسة لاقتصاديات السوق والعرض والطلب كما لو كانوا سلعاً رديئة.. فلا قانون عمل عادل ولا حد أدنى للأجور يرحم الناس من ذل العبودية الاختيارية.. كم من إنسان فى بلادنا باع نفسه وأهانها طوعاً تحت وطأة الجوع والفقر.. ليظل حبيس العمل المضنى الأبدى، على كرسى مصعد قديم فى مجمع التحرير.. أو على سقالة شاهقة فى بلاد النفط.. أو فى مصنع تعيس يستنشق غباره المسرطن.