بعد عشرة اجتماعات للجنة الثلاثية كان آخرها فى نوفمبر 2015، وبعد إهدار ستة عشر شهراً متصلة، فشل أعضاء اللجنة فى التعاقد مع مكتب استشارى لإجراء دراسات تداعيات سد النهضة على دولتى المصب، بينما نجحت إثيوبيا أثناء هذه الفترة من الانتهاء من 50% من منشآت السد. فتدخل الرئيس السيسى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وأشرك وزير الخارجية فى مفاوضات اللجنة الثلاثية لعل وعسى يستطيع تحريك المياه الراكدة. واجتمع وزراء الخارجية والمياه من الدول الثلاث فى مدينة الخرطوم فى 11 ديسمبر 2015، وكان لمصر هدفان من الاجتماع. الهدف الأول هو الانتهاء من المسلسل الدرامى الطويل لاختيار مكتب استشارى والتعاقد معه لإجراء دراسات تداعيات السد قبل الانتهاء من تشييده. والهدف الثانى هو التأكيد على ضرورة التزام إثيوبيا بما جاء فى البند الخامس من وثيقة إعلان المبادئ بعدم البدء فى ملء السد حتى انتهاء الدراسات والتوافق حول عدد سنوات التخزين وسياسات التشغيل. ولكن فشل الاجتماع وتكهربت الأجواء، فتم الاتفاق على عقد اجتماع آخر بعد أسبوعين فى الخرطوم. وكعادة إثيوبيا قامت بمفاجأة الجميع يوم 26 ديسمبر، قبيل الاجتماع الوزارى بيوم واحد، بالاحتفال بإعادة النيل الأزرق إلى مجراه الطبيعى. وأعلنت إثيوبيا البدء فى التجهيزات اللازمة لافتتاح المرحلة الأولى من السد وبدء تخزين المياه وتوليد الكهرباء مع بداية الفيضان المقبل فى يوليو 2016. وفى اليوم التالى فى اجتماع وزراء الخارجية والمياه، تم الاتفاق على اختيار شركتين فرنسيتين (بى آر إل) و(أرتيليا) لإجراء دراسات السد، على أن يتم التعاقد معهما خلال فبراير 2016. ولكن فى نفس الاجتماع رفضت إثيوبيا طلب مصر بالانتظار وعدم البدء فى ملء السد حتى الانتهاء من الدراسات.
ولعدم الإفصاح عن هذا التعنت الإثيوبى للإعلام، صرح الجانب المصرى بعد الاجتماع «أنه تم توقيع وثيقة جديدة تعاملت مع الشواغل الرئيسية التى تهم الدول الثلاث بشأن السد ولتحقيق الأمن المائى المصرى». ولكن وزير المياه والكهرباء الإثيوبى قام بتكذيب هذه التصريحات قائلاً «إن إثيوبيا لم تتوصل إلى أى اتفاق مع القاهرة والخرطوم بشأن ملء سد النهضة وأن ما تردد بوسائل الإعلام على التوصل لاتفاق جديد هو كذب، وأضاف أن أعمال بناء السد مستمرة وأن ملء السد جزء من أعمال بنائه وسيتم وفق الجدول الزمنى الموضوع». وصعدت إثيوبيا من تصريحاتها وأعلنت بأنها بدأت إجراءات تركيب توربينتين بهدف توليد الكهرباء مع الفيضان المقبل. الجانب الإثيوبى لا يتوانى عن إحراج المفاوض المصرى أمام شعبه، أما المسئولون المصريون فما زالوا يرددون أن المفاوضات هى الطريق الوحيد لحل أزمة سد النهضة، وأن مصر قادرة على منع إثيوبيا من تخزين المياه أمام السد حتى الانتهاء من الدراسات. وقد يعتقد البعض أن هذا الموقف المصرى مناورة سياسية تهدف إلى استنزاف جميع سبل الحوار المتاحة قبل اتخاذ مسار آخر، ولكننى أرى شخصياً أنه ليس هناك متسع من الوقت لمثل هذه المناورات، وأن الحكومة المصرية للأسف تراهن بكل ما لديها على المسار التفاوضى بالرغم من أن مصيره الفشل ولأسباب واضحة معلومة للجميع، ولكن المفاوض المصرى يحاول تجاهلها.
إثيوبيا ومصر يعلمان جيداً أن دراسات السد سوف تستغرق فترة أطول مما نتصور كنتيجة للتأخير المتوقع فى تسليم البيانات من كل دولة، وللخلافات التى سوف تظهر بين الدول الثلاث حول دقة وشكل هذه البيانات. وسوف تظهر العديد من الاختلافات والجدال حول النتائج المرحلية والتقارير الدورية للدراسات، وحول الاتفاق حول سيناريوهات الفيضانات المستقبلية واحتمالاتها. وحتى إذا تمت الدراسات فى موعدها وهذا احتمال غير وارد، فإن إثيوبيا تعلم تماماً أنه من المستحيل أن تتوافق مع مصر حول نتائجها، ويعود ذلك لمعوقات يعلمها الجانبان. ولإيضاح هذه المعوقات، دعونا نستوعب ما جاء فى وثيقة إعلان المبادئ والتى تنص على عدم تسبب السد فى أضرار ذات شأن بالاستخدام العادل والمنصف لكل دولة من مياه النيل. واشتملت الوثيقة على معايير لحساب كميات المياه العادلة والمنصفة لكل دولة، ولكن لم يتم الاتفاق على هذه الكميات العادلة والمنصفة، التى على أساسها سيتم تقييم مدى الضرر الواقع من السد على دولتى المصب وهذه أول المعوقات لتنفيذ والالتزام بما جاء فى وثيقة إعلان المبادئ. وثانى هذه المعوقات أن كمية المياه العادلة والمنصفة التى سوف يتم تخصيصها لمصر ستكون بالتأكيد أقل من حصتها المائية التاريخية، لأنه سيتم اقتطاع جزء منها وكذلك جزء من حصة السودان لصالح بقية دول الحوض وسيكون ذلك عنصراً خلافياً كبيراً. وثالث هذه المعوقات أن حساب هذه الكميات العادلة والمنصفة لكل دولة، سوف يتطلب مشاركة دول حوض النيل مجتمعة فى المفاوضات. إن وثيقة إعلان المبادئ نصت على استخدامات المياه من النيل الرئيسى الذى تشارك فيه جميع دول الحوض، ولم تختص فقط بالنيل الأزرق الذى يقام عليه سد النهضة، ولذلك سيكون على مصر الرجوع مرة ثانية إلى معضلة اتفاقية عنتيبى. وهذه الاتفاقية التى رفضتها مصر من قبل تنص على إعادة تقسيم مياه النيل بين الدول على أساس الاستخدام العادل والمنصف للمياه وبنفس المعايير التى جاءت فى وثيقة إعلان المبادئ. وبالتالى فإنه على كل من مصر والسودان الانضمام أولاً لاتفاقية عنتيبى، ثم التفاوض مع بقية دول الحوض حول نصيب كل دولة.
وحتى إذا قبلت مصر بكل هذه السيناريوهات السوداء، فإن إثيوبيا لن تترك السد جافاً لسنوات حتى يتم حسم تحديد الحصص المائية لكل دولة. السد سوف يستكمل ويملأ ويتم تشغيله ونحن مستمرون فى ملء الدنيا صياحاً بإنجازات المسار التفاوضى. إن الهدف من سد النهضة ليس التنمية كما يردد البعض بل الأهداف الحقيقية هى إجبار مصر للالتحاق باتفاقية عنتيبى، وإلى قبول مصر مبدأ إعادة تقسيم مياه النيل بين دوله، وإلى إعادة تشكيل خريطة توزيعات القوى والنفوذ السياسى بالمنطقة. اللهم إنى بلغت..اللهم فاشهد.