اندهش الرئيس السيسى عندما سألته: «هل حضرتك لديك (رؤية استراتيجية) للمشروع الحضارى المصرى الذى نحلم به؟.. لأنى خايف وقلقان من طريقة الشُّغل فى كل اتجاه.. قناة السويس من ناحية.. عاصمة جديدة.. توشكى تانى بمليون فدان.. وساحل شمالى فى العلمين و.. و.. وبعدين نُقع فى مشاكل؟».
الرئيس سكت شوية.. وقال:
«انت ماتعرفش طريقتى فى الشُّغل.. إحنا بنشتغل بخطط مدروسة أوى.. وكل حاجة معمول حسابها.. عاوزك تطَّمن وتُطمِّن كل الناس.. دى بلدنا.. وإحنا بقينا مسئولين عنها قُدَّام ربنا والشعب»!!
كان هذا السؤال ضمن مجموعة أسئلة وجّهتها له، فى مكالمة تليفونية طويلة نشرتها بجريدة «الوطن».. تحت عنوان «مكالمة الرئيس» بتاريخ 2/9/2014 تستطيع قراءتها على النت..
أتذكر هذه الإجابة فى كل مرة أرى فيها حالة «التخبط»، و«الارتباك»، «وسوء الإدارة»، «والارتجال».. وسألت نفسى مرات: «يا ترى مفهوم الرئيس لفكرة (الرؤية الاستراتيجية) هو نفس مفهومنا لها؟.. فأنا أُصدقه ولا أشكُّ لحظة فى أمانته، وأثق تماما فى حُسن نواياه!!
ولهذا انتهزت الفرصة فى حوارى الثانى مع «مؤسس ماليزيا الحديثة» السيد/ «محاضير» محمد أو مهاتير محمد كما نسميه.. وسألته:
كيف صنعت «رؤية» لماليزيا.. لتصبح «نمراً» من نمور شرق آسيا، وتطير بها إلى سماء العالمية؟
قال: عندما كنت أستاذاً بالجامعة.. كُنت أحلم بماليزيا أخرى غير ماليزيا الفقيرة المتخلِّفة.. فجمعت كل أصدقائى الحالمين مثلى من المبدعين.. كُنا نجتمع بكل صاحب خبرة.. نسمع ونعى ونُجادل ونختلف إلى أن نتفق..
كُنت أنوِّت أية «فكرة» لها معنى.. حتى من الطلاب النابهين!!
عقدنا بعدها «ندوات» ومؤتمرات بأعداد محدودة من متخصصين وخبراء.. حتى تبلورت «رؤية» كاملة فى رأسى لماليزيا التى كنا نحلم بها.. إلى أن عيّنونى وزيراً فى الحكومة.. واصطدمت بالواقع.. وكان الواقع مُزرياً وبائساً ومُحبطاً.. ولكننا مع «مجموعة» الحالمين لم نيأس، وصممنا على تنفيذ حلمنا.. ولخصت الحلم فى كتاب ذاع صيته، فأصبحت مسئوليتنا أعظم..
فجلسنا لعشرات المرات، وقسَّمنا أنفسنا إلى مجموعات كلٌ فى تخصصه.. ودعونا المميَّزين من «الماليزيين بالخارج»، واستعنا بمراكز للبحوث المحلية والأجنبية.. وبدراسات خاصة باحتياجات الأسواق فى المستقبل، وبتجارب لتنمية وتأهيل البشر.. درسنا وفهمنا وتعلَّمنا وأضفنا وحذفنا.. واستفدنا من كل التجارب الإنسانية.. كسباً للوقت وتوفيراً للجهد والنفقات.. خاصة أننا دولة فقيرة بلا موارد ولا إمكانيات!!
طرحنا على أنفسنا عدة أسئلة، وألزمنا أنفسنا بالإجابة عنها.. منها:
1- من أين نبدأ؟
بالتعليم والبحوث العلمية.. أم بتدريب وتأهيل الناس؟ أم برعايتهم صحياً وهذا يحتاج إلى أموال طائلة لا نملكها؟.. أو بعمل بنية تحتية من مطارات وطرق ومُدن جديدة لجذب سُيّاح ومستثمرين؟.. بالزراعة أم الصناعة.. وأية صناعة وأية زراعة؟ و.. و..
وللإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها من عشرات التساؤلات، وأبرزها من أين سنأتى بالتمويل؟
اتفقنا أن: نضع لأنفسنا «رؤية استراتيجية لمشروع حضارى» يجمع كل المشاريع القومية فى التعليم والزراعة والتجارة والسياحة، فى الأدب والفن والرياضة، وكيفية التمويل!!
سألته: هل ممكن توضح لنا ما معنى «رؤية استراتيجية» وكيف تحققت على أرض الواقع المزرى كما قُلت عن ماليزيا 1981؟
قال: «الرؤية» ببساطة تعنى: تحديد الأهداف بوضوح وشفافية.. ولتحقيق «الأهداف» يلزم لها «وسائل» و«الوسائل».. هى: الخطط - السياسات - البرامج.. وهذا يحتاج إلى آليات قانونية وتمويلية.. وللتنفيذ على أرض الواقع يلزم «أشخاص» أكفاء يمتلكون «خيالاً».. لتنفيذ هذه الأهداف التى اتفقنا عليها وأعلمنا الشعب بها وجيَّشناه خلفها، بالتوعية فى المدارس ودور العبادة والإعلام.. مع الجداول الزمنية للانتهاء منها لتجييش الشباب معنا.. وحتى يتسنى لمجلس النواب وللصحافة مراقبتنا، وتوجيهنا لأية انحرافات فى الخطط.. ولكشف أى فساد حكومى!!
ونجحنا فى ذلك.. بإلزام كل واحد منا أن يكون مثلاً ونموذجاً كقدوة للناس.. وصممنا على العدالة فى تطبيق القانون وسرعة إنفاذه.. وكنا لا نسمح بأية تجاوزات مهما كانت سلطة المُتجاوز!!
وللحق أقول: كُنت صارماً مع نفسى، ومع الجميع حتى تحقق الانضباط.. «وصدَّقنى» الشعب الملاَّوى.. بعد أن تحقق أمامه كل ما وعدناه به فى مواعيده.. وكانت «الشفافية» المطلقة هى وسيلتنا للوصول إلى المصداقية.. حتى خرجنا من دائرة الفقر والجهل والتخلف التى عشناها أبّاً عن جد.. وأنت أكيد قرأت قصة حياتى مع الفقر.. عندما كنت تلميذاً فى الصباح، وبعد الظهر بياعاً للأيس كريم، وماسحاً للأحذية أحياناً.. ولكنى كنت منذ طفولتى مؤمناً:
«بأن الله يُوزِّع الأرزاق عند الفجر».. فإن استيقظنا جميعاً قبل الشروق.. وأعددنا للمجتمع «الرؤية» وأقنعناه بها، وشاركناه فيها.. ووجد بها مصلحته وطموحه لنفسه ولوطنه، فسيتحول إلى إنسان مُنتج - فاعل - بنّاء!!
وبابتسامته المعروفة بادرنى بسؤال:
هل لديك استفسارات أخرى، بعد كل ما قلته لك؟
قلت: بماذا تنصح الرئيس المصرى.. كى يؤسس وينهض بمصر، لنطير مثلكم إلى سماء العالمية؟
ضحك قائلاً: ليس هُناك نصائح ولا أسرار للنجاح.. لكن هناك «تجارب ناجحة» لدول كانت أفقر منكم مئات المرات.. أنتم بما تملكونه من كنوز وثروات وموقع وتاريخ وتأثير.. تستطيعون فى عشر سنوات أن تُقلعوا إلى سماء العالمية.. والعالم كله سيرحب بأحفاد الفراعنة، ليساهموا فى مسيرة الحضارة الإنسانية التى أسستموها!! فقط: اقرأوا هذه التجارب.. وأولاها تجربة محمد على من مائتى سنة مضت.. وأنا واثق أنكم قادرون على تحقيق حلمكم لمصر.. فمصر بلد عظيم يستحق منكم الكثير!!
شكراً يا حاج «محاضير»، وأتمنى لك موفور الصحة، ولماليزيا كل خير.
ونستكمل الثلاثاء المقبل.