يتوهم النظام الحاكم فى مصر الآن أنه يستطيع أن يفرض دستوراً وافق عليه 50% + 1 ممن أدلوا بأصواتهم فى الاستفتاء على شعب تعداده يقترب من التسعين مليونا.
فقد أظهرت نتائج المرحلة الأولى -بعد كل التجاوزات وحرمان الناخبين من الإدلاء بأصواتهم بالطوابير الوهمية- أن أكثر من 43% من الناخبين الذين تمكنوا من الإدلاء بأصواتهم يرفضون مشروع الدستور، وهذا دليل قاطع على أن الشعب منقسم على نفسه وأن الدستور بالفعل لم يكن توافقياً.
ويترتب على فرض هذا الدستور الذى يرفضه قرابة نصف الناخبين الذين تمكنوا من التصويت، فضلاً عن ملايين يرفضون ولم تُتَح لهم فرصة التصويت أن يصاب نصف الشعب بالإحباط واليأس وشحذ الغضب وتثبيط الهمم والعزيمة، وهذا أضعف الإيمان، وقد يتحول كل ذلك إلى ثورة غضب لا تبقى ولا تذر.
فإذا استبعدنا -مؤقتاً- الغضب الذى يؤدى حتماً إلى الثورة، فهل من مصلحة نظام الحكم فى مصر أن يحكم شعباً نصفه محبط ويائس ويشعر بالظلم وأن هناك فصيلا يفرض عليه أن يحكم بدستور جائر؟ النتيجة الحتمية لذلك هى ضعف الإنتاج وتدهور الحالة الاقتصادية، مما سيزيد من حجم البطالة وزيادة الفقر، مما سيدفع حتماً -ولو بعد حين- إلى الثورة على النظام وإسقاطه بثورة للجياع لن تبقى ولن تذر ولن ينفع وقتها النظام الحاكم ومناصريه التشدق بعبارات لا تسمن ولا تغنى من جوع من قبيل الاستقرار وأحكام الشريعة والاحتكام إلى الصناديق التى ثبت تزويرها وسيعود حكام اليوم إلى ماضيهم بدلاً من العبور بالبلاد إلى المستقبل.
وفى القانون هناك التزامات يستحيل تنفيذها جبراً كإلزام كاتب أو مبدع بأن ينفذ التزامه بكتابة قصة أو مقال أو رسم لوحة أو إلزام مطرب جبراً بأن يؤدى فقرة غنائية أمام الجمهور، حتى لو التزم بذلك بعقد موثق فإن امتنع عن التنفيذ فلن يمكن تنفيذ التزامه جبراً.
كذلك الأمر بالنسبة للدستور، فإنه يستحيل فرضه جبراً على الشعب أو على نصف الشعب وليس أمام النظام الحاكم إلا الانصياع للإرادة الشعبية المتوافقة إن كان يريد الاستمرار.
ولو كنت من النظام الحاكم الآن لدفعت وشجعت من يصوتون برفض الدستور فى المرحلة الثانية من الاستفتاء؛ لأن ذلك يحقق عدة أهداف، أولها: تكذيب ادعاءات المعارضة بوجود تزوير، وثانيها: إيجاد مخرج مشرف لنظام الحكم من هذه الورطة والسقطة الدستورية لمراجعة أخطائها لأنها ستنفذ الإرادة الشعبية ولم تنصَع لطلبات المعارضة المطالبة بإسقاط الدستور، وثالثها: استعادة ثقة الناخب المحايد فى نظام الحكم وفى ما يسمى التيار الإسلامى الذى انخفضت شعبيته بشكل ملحوظ وبالأرقام، ورابعها: أنها ستعطى هذا التيار فرصة لالتقاط الأنفاس بعد هذه الهرولة وراء إثبات شرعيته المهتزة جراء سلسلة القرارات الخاطئة التى انحدر إليها وأفقدته ثقة قطاع كبير إن لم يكن الأكبر من ناخبيه، وخامسها: تحسين صورة النظام الحاكم أمام العالم الخارجى بإظهاره أنه يسير فى الطريق الديمقراطى السليم الذى سيؤدى إلى استقرار البلاد وأن هذا النظام يختلف عن نظام مبارك الذى كان يعاند الشعب وإثبات أن النظام الحالى بعكس النظام يحترم الشعب ويحترم إرادته وأن القانون هو أساس الحكم وليس ميليشيات البلطجية مما يشجع الاستثمار.
أما إذا استمر النظام فى غيه وركب رأسه وأخذته العزة بالإثم بالاستمرار فى تزوير النتائج وحرمان الناخبين من حقهم فى إبداء آرائهم وفرض دستور محل اعتراض كبير فإن ما حدث فى مصر بعد انتخابات 2010 ليس ببعيد والشعب المصرى «موديل 2012» يختلف عن الشعب المصرى أيام مبارك والعادلى، وسيتحمل من يحكمون اليوم المسئولية عمَّا سيلحق مصر من تشرذم وانقسام وإحباط ويأس.
أُدرك تماماً المأزق الذى أوقع النظام الحاكم نفسه فيه؛ فهو يريد استقرار الحكم له واختطاف غنيمة الوطن وفقاً لرؤيته الضيقة والواقع يثبت أنه -النظام الحاكم- قد دخل فى خصومة مع الجميع: القوى السياسية والأحزاب والقضاء والإعلام والفنانون والمبدعون وقطاع عريض من أفراد الشعب إن لم تكن الأغلبية وهو فى ذات الوقت عاجز عن فرض سيطرته على بعض المناصرين له وعاجز عن فرض رؤيته على المناهضين له وعاجز عن توفير الأمن وعاجز عن توفير الاحتياجات الأساسية للمواطنين وعاجز عن إيقاف تدهور قيمة الجنيه وعاجز عن النهوض بالاقتصاد وعاجز عن مواجهة التهديدات الأمنية فى سيناء وعاجز عن تكميم الصحافة والإعلام حتى الحكومى منه، وترويض كل ذلك لن يأتى بالاستمرار فى الطمع والعناد وفرض الرؤية بقوة الميليشيات والبلطجية؛ فقد مضى هذا العهد إلى غير رجعة وعقارب الزمن لن تعود أبداً للوراء.
وقد أثبت التاريخ أن الشعب المصرى لا تمكن السيطرة عليه بالقهر أو بالبغى منذ الحملة الفرنسية والاحتلال الخارجى بمعرفة الإنجليز والاحتلال الداخلى بنظام مبارك، ولن يخضع أبداً لحكم الإخوان المسلمين إن تنكبوا الطريق الصحيح للحكم وفقاً لقواعد الحكم الرشيد وتوهموا أنهم يمكنهم قهر الشعب وحكمه بدستور جائر وميليشيات غاشمة كانت فى الجحور وتحملت الظلم والهوان لعقود ولم تحرك ساكناً أو تقاوم، والآن تستعرض قوتها على الشعب المصرى المسالم.
وأختتم بقول الشاعر: «لعَمرُكَ ما ضَاقَتْ بلادٌ بأهلِهَا ولكنَّ أحلام الرًّجالِ تَضِيقُ».