قيل لحكيم: أيهما أفضل العدل أم الشجاعة؟ فأجاب: من عدل استغنى عن الشجاعة، وكلما رأينا حاكماً يحوط نفسه بالحراس والعتاد، إذا مشى فهرولة، وإذا توقف فنقطة ضئيلة وسط دائرة من العمالقة الأشداء، استعدنا على الفور صورة «الفاروق» نائماً فى ظل شجرة، بعد أن حكم فعدل فنام.
والفرق بين السكينة والقلق هو ذاته الفرق بين العدل والجور.
واستدعاء هذه المعانى -الآن- صار أكثر إلحاحاً، بعد أن تحول إلى طقس أسبوعى فى حياة المصريين، يتابعونه مع كل صلاة جمعة يصليها «مرسى»، سواء فى محافظات مصر أو فى مساجد التجمع الخامس، حيث يسكن، حتى كانت الجمعة الماضية فى مسجد الفاروق بالتجمع الخامس، التى انتهت بالهرولة.
فالرجل حينما حاول أن يكون شجاعاً وفتح صدره بغير دروع فى ميدان التحرير، كان يعبر عن حالة الجرأة التى تتناسب مع جماهير نجحت -قبله- فى كسر جدار الخوف، وأصبح المشهد فى الميدان -حينئذ- ترجمة لصورة رئيس لا يخاف، يخاطب شعباً لا يخاف، وظلت الكاميرا ثابتة فى ضمائر العيون، تغازل الرغبة الدفينة فى رؤية حاكم بمستوى شعبه، وتناسى هؤلاء الطيبون وجود أكثر من خمسة آلاف ضابط وجندى وحارس لتأمين الرئيس بتكلفة فاقت أكثر من ثلاثين مليوناً فى هذا اليوم المجيد.
وبعدها، دخلنا مباشرة إلى عصر (جمعة الرئيس)، فلكل جمعة طقوس أمنية، ولكل صلاة حكاية فيس بوكية، ويحاول الخبراء الأمنيون إحصاء الأرقام وحجم الأرقام وحجم الإنفاق، فيرصد اللواء محمد زاهر تكلفة تأمين الرئيس سنوياً بمبلغ 1.3 مليار جنيه.
أما صلاة الجمع وحدها فتتكلف حوالى 810 ملايين جنيه بمعدل 3 ملايين جنيه فى الجمعة الواحدة، هذا عدا صلاة الأعياد بالإضافة للفجر والتراويح!!!
وفى الزيارة الشهيرة لأسيوط تنابز الناس بالأرقام ما بين عشرة ملايين إلى عشرين، مما اضطر مصدراً مسئولاً فى المحافظة إلى التصريح بأن التكلفة لم تزِد على تسعة ملايين، ودخلت الرئاسة المزاد بتصريح غامض للأخ ياسر على الذى أكد أن عدد أفراد التأمين كان 500 ضابط وجندى من وزارة الداخلية، وأضاف المتحدث الرسمى أن هذا العدد لا يتناسب مع رئيس بوزن مصر!!!!
فأوزان الدول تتوازى مع أوزان الحكام، وبمعادلة طريفة يكون من حق رئيس الصين تأمين موكبه بخمسة ملايين جندى على الأقل، وتكلفة تصل لمليار دولار، أما دولة صغيرة مثل قطر فينبغى أن يحرس أميرهم ثلاثة حراس على الأكثر، بما لا يزيد على مائتى دينار مثلاً!!
الدكتور مرسى دخل مزاد السخرية بمقولة مضحكة كالبكاء:
(وعلى كده تبقى الركعة بكام)؟!
والحقيقة -فى ظنى- أن الأرقام لا تهم، فكم من أموال ضاعت، وكم من أرصدة تبددت، فالقدرة على البناء فى مصر لا تساويها إلا القدرة على الهدم، لكن الأهم فى -يقينى- هو العلاقة الحتمية بين الظلم والخوف، وبين العدل والأمن.
وعدل السلطان أنفع للرعية من خصب الزمان، كما يقول الفقهاء.
وثمة قول حكيم لوهب بن منبه صاحب كتاب «التيجان»: (إذا همَّ الوالى بالجور أو عمل به أدخل الله النقص فى أهل مملكته، حتى فى التجارات والزراعات وفى كل شىء، وإذا همَّ بالخير أو عمل به، أدخل الله البركة على أهل مملكته، حتى فى التجارات والزراعات وفى كل شىء).
فالله الذى أمر عباده بالعدل والإحسان تعهد كل الساعين فى مناكب الحياة بالرزق، وإنما الفقر والإملاق وذهاب الريح والفشل لا تشمل البلاد والعباد إلا من الظلم والفرقة، فإن جاع الفقراء أو عُرُّوا فبمنع الأغنياء وإقتارهم، وبجور الولاة وإجحافهم، فمن أين يأتى الأمن والسكينة والرضا والنوم أسفل الأشجار والنخيل، بينما الحاكم يستقوى بعشيرته على شعبه، ويمد يداً كانت العليا فأصبحت صاغرة، يستجدى تجار الغرب والشرق بحثاً عن بضع لقيمات تقيم أود الموازنة، ولو بأى شروط، حتى وإن كانت التضحية بالشعب.
ومن آيات ظلم الحاكم ترك أهل النصيحة من ذوى الفضائل، واصطناع ذوى الرذائل، والاستخفاف بعظة الناصح، والاعتزاز بتزكية المادح، فينطبق عليه قول الشاعر:
ومن يربط الكلب العقور ببابه / فعقر جميع الناس من عاقر الكلب
وقديماً كتب الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز إلى الزاهد حسن البصرى: انصحنى، فكتب إليه «البصرى»: إن الذى يصحبك لا ينصحك، والذى ينصحك لا يصحبك.
فالمستشارون والمساعدون والوزراء أعوان على الإصلاح والرأى، لكنهم حينما يتحولون إلى جوقة من العميان يفقد الحاكم والمحكوم شعورهم بالسلام، فلا تعرف أعينهم نوماً ولا قلوبهم سكناً.
وكلما رأيت الرئيس فاراً من قصر الاتحادية، أو مهرولاً من مساجد التجمع الخامس تأكدت أن جيوش الأرض لن تستطيع توفير الأمن إذا فقدت الأمة معنى العدل.