ليس شيء أكثر إهانة للذات البشرية من أن تفقد حريَّتها، ومنطق الاختيار.. تجارب القطيع أكثر خطورة مما نتصور، تطلب الأمر الرجوع إليها مرة ثانية..
تجربة الحريق
ما زال البروفسور سالمون آش يتحدى، ويفسِّر سلوك الأفراد تبعًا لسلوكيات المجتمع الذي يعيشون فيه..في تجربة قريبة قام بوضع رجل في غرفة اجتماعات مُوهِمًا إياه بأنه اجتماع من أجل معرفة سلوك المشترين، من ثَمَّ تضخُّ آلةٌ دخانًا كثيفًا يصل إلى المشترك من وراء الباب، مع صوت إنذار متقطع، يشعر المشترك بأن هناك حريقًا في المبنى، ومن ثم يطير إلى الخارج خائفًا.. تكررت التجربة 10 مرات، وكانت النتيجة واحدة.يغير آش ظروف التجربة؛ فيحيط المشترك بسبعةٍ متعاونين معه، يعرفون أبعاد التجربة، ويُصِرُّون على عدم الخروج حتى مع صوت الإنذار المزعج، الغريب أن المشترك يجلس ولا يتحرك، رغم شعوره بالقلق.. فرؤية أفراد الجماعة وهم ثابتون، تجعله يشكك في نتائج تفكيره، بل ويتبعهم اتباعًا أعمى.إن أكثر الأشخاص توترًا واستقلالية رفض أَسْرَ المجموعة وخرج من قاعة الاجتماع بعد 12 دقيقة، وهي مدة كافية لفقدان الوعي والاختناق بالغاز، لو كان ثمة حريق حقيقي.هل تعرف أن عشرة أفراد في مطعم بإنجلترا ماتوا مختنقين لأن أحدهم لم يبادر ويتحرك من مكانه بعد رؤية الغاز.. ببساطة، كانوا ينتظرون دفع الحساب (روتين القطيع)؟! رفض أحدهم أن يقوم بدور القائد، ويكسر جمود المجموعة، ويحذرهم مما يرونه جميعًا.
https://www.youtube.com/watch?v=IXD9Kdu8TBY
ابصق واندهش
سألوا عددًا من المشتركين حول انتماءاتهم وهوياتهم الوطنية، أجابوا بفخر وانتماء: أنا فرنسي.. آيسلندي.. تركي.. بنغالي... إلخ، مسلم، مسيحي، يهودي، بوذي. وحين سُئلوا عن أي البلاد يكرهون، بعضهم أجاب: ألمانيا، تركيا، فرنسا، الهند، باكستان. كان ظنهم أنهم أنقياء مائة بالمائة، وليس ثمة شوائب في نشأتهم.طلبوا منهم البَصْق في أنبوب، وتحليل الـ(DNA) الخاص بهم، أي فكّ شفرتهم الوراثية، فهالهم ما رأوا..!الإنجليزية التي تكره الفرنسيين بها نسبة من الانتماء الفرنسي، ونسبة قليلة من الانتماء الإنجليزي.أحدهم أصوله إسلامية يهودية..بعضهم به نسبة من الألمانية التي يكرهها.لقد وجدوا قَرَابَات ضمن الغرفة الواحدة..نحن جميعًا أبناء النجوم، ومن ذرات هذا الكون، يأتي الأب والابن معًا.إنه القطيع الذي يسوِّل لكم العداءات، ويريكم الاختلاف بأبشع صوره، فتفتك بغيرك، وتكره أصولك!
https://www.youtube.com/watch?v=No2JlQzM8Cs
أما هذه التجربة فهي المفضلة لديّ..تأتي للكشف الدوري على عينيها، فتجلس مع مجموعة كلها متعاونة مع صاحب التجربة، يرنّ جرسٌ كلَّ عدة دقائق، ما إن يسمعه المتعاونون حتى يقوموا ويجلسوا، فقط.. ينظر الشخص الغريب إليهم! لماذا يقومون؟! يضحك عليهم، وبعد عدة مراتٍ يقومُ بالقيام والجلوس مثلهم كلما رنّ الجرس.بعد قليل يجري تغيير المجموعة واحدًا واحدًا بأشخاص حقيقيين لا يعلمون شيئًا عن التجربة، ويدخلون في «المفرمة»؛ فبعد قليل، يقومون جميعًا (المشتركين وغير المشتركين)، بالوقوف والجلوس عند سماع الجرس، بعد قليل يصبح أفراد التجربة جميعهم مشتركين لا يعلمون شيئًا عن طبيعة التجربة، وما زالوا يقفون مع كل رنة.تُشبِه هذه التجربة أخرى شهيرة، تلك التي أُجريَت على ثلاثة قرود في غرفة واحدة، يضعون أمامها موزًا، وعندما يقترب أحدها ليأكل، يُرش على الجميع مياه ساخنة تجبرها على التراجع في ألم، حتى ييأس القرود من الاقتراب، بعد قليل يبدلون أحد القرود بقرد لا يعرف التجربة، عندما يحاول الاقتراب تجتمع عليه بقية القرود وتضربه من أجل الرجوع، وعند تغيير جميع أفراد التجربة بقرود جديدة، تظل لا تقترب من الموز، وكلما حاول أحد، تضربه بقية الأفراد!!أنت لا تأخذ قرارك بموجِب ذاتك، وإنما بأفراد التجربة.!
https://www.youtube.com/watch?v=FyDFahzVuNY
القطيع يبدو مضحكًا في بعض الأحيان
يدخل ثلاثة متعاونين (تابعين لصاحب التجربة) إلى المصعد، يقفون قبالة الحائط، تاركي ظهورهم لباب المصعد، يدخل رجل يعطي وجهه لباب المصعد كالمعتاد، لا يلبث أن يعدِّل وضعه الاجتماعي، ويغير منطقه، ويشكك في جدوى وقفته، ويقلِّدهم!يعدِّلون وضعهم، فيعدِّل وضعه، يغيِّرون وقفاتهم، فيغيِّر وقفته، لقد صار تابعًا ولا يمكن أن يتخلص من ذلك.
https://www.youtube.com/watch?v=gNCZu6dq6Qs
الأكثرية دائمًا ليست على حق
انظر إلى المظاهرات، في أشد حالاتها عنفوانية، يكون السبب فردًا تولى القيادة، اتَّبَعه القطيع دون وعي، فيكسِّرون واجهات المحال ويقتلون، ثم يعودون إلى بيوتهم بهدوء!حتى في الديمقراطيات تظهر غلبة القطيع؛ هي التي جاءت بهتلر، وأباحت المخدرات، وأطاحت بثاتشر، وقضت على تشرشل، وربما جاءتنا بترامب، بعد أوباما الذي يبدو (على سوءاته) هدوءًا بين عاصفتين!تحرَّرْ من الأَسْرِ، وفكِّرْ وحدَك، ابتعِدْ عن منطقِ الجماعة، فمنطِقُها أقرب إلى الإلزام الأعمى، والسير نحو الحتف، مثلما نتضاحك فنقول: عشرة مغفلين يسيرون وراء بعضهم سقطوا في الحفرة نفسها..!كلنا أبناء بيئاتنا، إنما أكثرنا عقلًا من يفتح ثغرة في الباب، وينظر إلى العالم الواسع، يجاري أفراد بيئته، ولا يسمح بأن يكتِّفوه، لا يعاديهم، ولا يجاريهم.. ويفكِّر، ويقرأ!