«شباس عمير».. أسطورة «الوتد»حين تحن"أنس الحبايب"
هنا «شباس عمير» مسقط رأس ومدفن الأديب الراحل خيرى شلبى، التى كتب عنها روايات وحكايات حتى ارتبطت القرية المصرية باسمه فلا تُذكر فى عالم الأدب إلا بذكره. وعندما طُلب من الأديب العالمى نجيب محفوظ أن يكتب عنها قال: «كيف أكتب عنها وفيها خيرى شلبى».. لكنها لم تعد كما كانت وقت طفولته وشبابه، فعدد سكانها الآن حوالى 90 ألف نسمه، البيوت الطينية تحولت إلى عمارات مرتفعة منذ منتصف ثمانينات القرن الماضى بعد معرفة أهل القرية طريق العراق.[Quote_1]
الشوارع الرئيسية كلها «مسفلتة»، سيارات «الميكروباص» تنقل الأهالى من مدينة قلين إلى القرية مسافة 6 كيلومترات. يفضل أهلوها العودة إلى بيوتهم فى «التوك توك». هذا العز لم يكن موجوداً فى طفولة شلبى البائسة. حيث كان يذهب بصحبة زملائه من أبناء الفلاحين والأُجَرية إلى مدرسة عبدالله النديم الابتدائية وهم حفاة. التحق بها عام 1944 وكتب عن ناظرها الشيخ حسن الزيات ومعلميها وزملائه حكايات ونوادر، وقد تم بناء المدرسة من جديد لتختفى الملامح التى رسمها خيرى شلبى عنها فى كتابه «أُنس الحبايب» بل تم بناء 6 مدارس متنوعة أخرى بالقرية بجانب معهد أزهرى. اختفى «كتّاب الشيخ جمعة»، الذى حفظ فيه القرآن ومُدّ فيه على رجليه، إلا من «دكة» سيدنا، فقد تهدم تماماً. مسجد العصاروة الذى كان يعتكف فيه الأديب الراحل أعيد بناؤه مرتين فى نفس المكان المواجه للكتاب، وهو المسجد الذى شيعت منه جنازته. كل منازل شارع «العكايشة» أصبحت مبنية بالطوب الأحمر الآن، بل يوجد بناصيته معمل تحاليل وعيادة طبيب، وما كان هذا ليحدث فى عصر فاطمة تعلبة زوجة عم خيرى شلبى التى خلدها فى روايته الشهيرة «الوتد» حيث كان لديها دواء لكل داء، لم يبق من أحفادها إلا الشيخ محمود عكاشة، الصبى «شوشة» ابن ابنتها بسيمة راعى الغنم فى مسلسل «الوتد» الشهير.
بقايا كنيسة مهدمة شاهدة على قصة «قداس الشيخ رضوان» وهى تحكى واقعة حقيقية حدثت بالفعل فى النصف الأول من القرن الماضى. عندما امتلأت الكنيسة عن آخرها بالمسيحيين انتظاراً لقدوم «أبونا» الذى سوف يقيم القداس لكن غزارة الأمطار فى ليلة الشتاء هذه حالت دون وصوله. فذهب إليهم الشيخ رضوان إمام وخطيب القرية وقتئذ وأخبرهم بأنه سيقيم القداس بنفسه فتعجبوا جميعاً: كيف تعرف أنت المسلم الترانيم الخاصة بالقداس وما يقال فيه. ولم ينل أحد من عزيمة الشيخ، فأقام القداس فكان ما أروعه، فكتب الأديب الراحل رواية عن ذلك الحدث العجيب.[Quote_2]
مات معظم أصدقاء شلبى بالقرية وبقى أبناؤهم. مثل ابن عمته أنور السنهورى الذى توفى منذ 17 عاماً. قام الأديب الراحل بتوطيد صلة القرابة بينهما بالزواج من ابنته، بناء على طلب أبيه أحمد شلبى أفندى فور عودة خيرى بعد غياب طويل.. يتحدث كل من سميح وصبرى والسيد أبناء أنور السنهورى وأشقاء زوجة الأديب الراحل عنه بود وفخر، لأن شلبى كثيراً ما جلس فى البيت الذى يقيمون فيه الآن مع أبيهم أنور ابن عمتة، ليقرأ أنور عليه السير الشعبية بصوت رخيم يشبه صوت المذيع حسن الحديدى وبصحبة الشيخ محمد زيدان عسر صاحب الفضل فى تأسيس ذائقة شلبى الأدبية. كان آخر عهد خيرى شلبى بقرية شباس عمير منذ 12 عاما، فلم يزرها خلال تلك المدة هرباً من بعض المتطفلين، كانوا يقتحمون عليه وحدته ويخرجونه من الصفاء الذهنى الذى كان يبتغيه، فضلاً عن تغير معالم القرية واتساع رقعتها وابتعاد المزروعات عن البيت. لذلك كان دائم التردد على قرية أخرى قريبة من شباس اسمها «الشقة» بلد أحد أقربائه وزوجة ابنه الأكبر، زين، وهى من أقربائه أيضاً، حيث كان الجوّ مهيئاً له. ولم تنقطع أخبار شباس عمير عنه، فهو دائم السؤال عنها وعن أصدقائه، حيث كتب مقالاً عن الشهيد ياسر فريج عبدالعزيز ابن زميله فى الابتدائية، الذى قُتل بدم بارد فى نقطة مراقبة على الحدود المصرية الفلسطينية منذ 4 سنوات. وكتب مقالاً آخر يطالب فيه بتعيين ابن قريته أحد أوائل دفعة كلية الطب معيداً بعد أن أبعدوه لأنه البائس الفقير وقد أنفق عليه أبوه الفلاح «دم قلبه» ليعلمه. وكان للأستاذ ما تمنى، والكلام على لسان السيد السنهورى الذى أنابه الأستاذ ليصحح اللهجة الريفية فى مسلسل «الوتد» وظل مع فريق عمل ونجوم المسلسل لمدة 70 يوماً هى مدة التصوير الداخلى.
كان الأديب مرتبطاً وجدانياً بمنعطف الجفار الذى يبتعد عن مدرسة عبدالله النديم أمتاراً قليلة وهو عبارة عن حارة ضيقة تتصل بمعظم شوارع القرية الكبيرة، كان الأستاذ يبتسم عند تذكر المكان ويقول: «هوّ لسه موجود؟».[Quote_3]
أما إخوته السبعة فلم يبقَ منهم على قيد الحياة إلا ثلاثة حسنى وحمدية ونبيلة. لم نستطع مقابلة حمدية بسبب مرضها وتأخُّر حالتها، بجانب سفر حسنى، فقابلنا الأخت الصغرى نبيلة التى تتذكر تلك اللحظة التى اهتزت لها المشاعر والقلوب حيث قالت: «مسلسل إذاعى قادنا إلى معرفة طريق خيرى عندما خرج منها وأنا طفلة رضيعة ولم يعد إليها إلا وأنا فتاة كبيرة، حيث دفعتنى دموع أمى وبكاؤها المتصل على فراقه إلى حبه غيابياً نظراً لحنانه ورقته. ذات ليلة كنا نستمع إلى مسلسل إذاعى عن الفلاحين، وبعد انتهائه نطق الراديو بأن المسلسل من تأليف خيرى شلبى. لم ننم فى تلك الليلة ترقباً وحذراً داعين الله أن يكون هذا الخيرى أخانا. قبل شروق شمس اليوم التالى شَقّ «على» أخى طريقه إلى القاهرة قاصداً شارع الشريفين حيث مبنى الإذاعة القديمة حتى تعرّف عليه وأتى به إلى القرية من جديد بعد غياب دام أكثر من 12 عاماً ذاق فيها خيرى ألواناً من العذاب، وعادت الروح إلى أمى، وتحول لون بشرتها إلى الحمرة بعد اصفرار لازمها طويلاً، وشُجَّ وجهى بالسكين بعد أن وقعت عليها سهواً من شدة الفرح قبل أن يضمنى إلى أحضانه الدافئة ويقول سامحينى، سأعوضك عما فات يا نبيلة»..
خيرى شلبى كان يتمنى أن تقيم الحكومة بيتاً للثقافة بالقرية لينهل منه الشبان والأطفال، وتعهد بتزويده بما يحتاجه من كتب. لكن عضو الحزب الوطنى المنحل حال دون ذلك ظناً منه أن شلبى يريد الترشح للانتخابات. لكن الأستاذ لم يبخل على بلدته بما لديه من ذخائر ثقافية متنوعة فطلب سيارة «نصف نقل» حملت 15 ألف كتاب من شقته بالقاهرة بعد أن ضاقت بالكتب إلى مسقط رأسه وحبه الأثير، وتقاسمها شباب ومثقفو القرية وتم إيداع جزء آخر بمكتبة مركز الشباب. قرية «الشُّقة» أيضاً كان لها نصيب من هذه الكتب. ولم لا فقد احتضنته كثيراً؟ هكذا ورّث بعضاً من ثروته المكتبية فى حياته. قبل أن توافيه المنية بساعتين هبَّ جالساً من مكتبه وقال لزوجته: «نسيت واحداً لم أذكره فى أى رواية كتبتها عن البلد. إنه طلبة الحيطاوى مسحراتى البلد»، وحزن الرجل لذلك؛ لأنه كان يشعر بأنه لن يكتب ثانية. تمنى أن يُبنى له قبر جديد يدفن فيه وحيداً فى مقدمة مدافن القرية ولم تحقق له أمنيته فدُفن فى قبر عادى لا يميزه شىء عن أقرانه سوى لافتة رخامية مكتوب عليها قبر الأديب الراحل خيرى شلبى توفى فى 9/9/2011 ليستقر أبد الدهر وسط أنس الحبايب.
أخبار متعلقة
خيرى شلبى.. عام على رحيل أمير الصعاليك والمهمشين
«الوطن» فى بيته.. هما "وحى الإبداع"
الوتد.. موّال فى حضرة خيرى شلبى
ريم تكتب عن «الأب الأنيق»
القهوة في انتظارك
موال الحياة والموت
«شباس عمير».. أسطورة «الوتد»حين تحن"أنس الحبايب"