حكاية يسرية السائسة: «في الشغلانة بقالي 50 سنة.. وما أعرفش غيرها»
يسرية حنفي - السائسة
على كرسي حديدي وبجانب سور كلية الهندسة جامعة القاهرة المطل على شارع نهضة مصر تجلس يسرية حنفي، تمد بصرها بمحاذاة السور لتراقب السيارت المتوقفة أمامه، تلتقط عيناها المستقرتان خلف زجاج نظارة طبية أحدهم يركن سيارته، ترفع صوتها ليسمعها: «معاك هنا يا أستاذ»، ينظر إليها بطرف عينه ويرد: «مش عاوز أمور بلطجة»، يصدمها رده، فتجيب بدورها: «مش مسامحاك على الكلمة اللي قلتها دلوقت، علشان أنا مش بلطجية».
«زمان كان اللي بيركبوا العربيات كلهم ولاد ناس.. دلوقت كل من هب ودب معاه عربية بس مش محترم زي بتوع زمان»
أكثر من 50 سنة قضتها يسرية أمام كلية الهندسة «سائسة»، أو «ركيّنة»، تقول السيدة ذات السبعين سنة إنَّها عرفت المهنة منذ أن كانت طفلة بنت 10 سنين: «أبويا كان سايس هنا، وأخدني معاه عشان أساعده»، كان العبء كبيراً على الأب الذي يعول 4 فتيات أخريات غيرها، وكان الزمن غير الزمن: «زمان كان اللي بيركبوا العربيات كلهم ولاد ناس، دلوقت كل من هب ودب معاه عربية، بس مش محترم زي بتوع زمان».
تسرح يسرية قليلًا وكأنّها تسافر عبر الزمن للوراء: «كانت العربيات اللي بتركن قدام كلية هندسة كلها قديمة، الأوبل القديم، والمرسيدس القديمة، والفولكس فاجن، والشيفروليه القديمة»، وكان إيجار الركنة طول النهار لا يتجاوز القرشين: «فيه ناس كانت بتحاسبنا بالشهر، زي خالد ابن جمال عبدالناصر اللي كان بيدرس في كلية الهندسة، وكان بيدفع لنا 60 قرش في الشهر».
خالد وعبدالحكيم عبدالناصر أشهر زبائنها.. وجمال السادات حماها من شرطة المرور
تذكر «يسرية» كيف كان خالد عبدالناصر يصل للكلية متبوعاً بسيارة مرسيدس للحراسة، كان والده وقتها لا يزال يشغل منصب رئيس الجمهورية، بعكس شقيقه الأصغر عبدالحكيم الذي التحق بنفس الكلية عقب وفاة والده، فحرم من سيارة الحراسة، واقتصر الأمر على سيارة «مازدا» بيضاء صغيرة كان يقودها بنفسه، أما جمال السادات الذي دخل الكلية في فترة حكم والده فكان يستقل سيارة صغيرة مع «شلة» من أصدقائه دون أي حراسة.
العمل في تلك الفترة كان يتطلب من السيّاس التواصل مع إدارة مرور الجيزة، للحصول على ترخيص بمزاولة المهنة: «أبويا كان معاه رخصة رقمها 55، وكان لازم يروح يوم 3 من كل شهر يمضي في إدارة المرور»، تعلمت يسرية القيادة على يد أحد معارفهم: «الأسطى محمد، الله يرحمه، هو اللي علمني السواقة»، ما مكنها من إجادة عملها: «كنت باركن أجدعها عربية».
أجرة ركن السيارت قديماً قرشين صاغ ارتفعوا لجنيه.. وحالياً 5 جنيهات في اليوم
لم تستمر «يسرية» طويلًا في العمل إلى جوار والدها، إذ سرعان ما طلب يدها مكوجي «طيب وابن حلال»، فتزوجته وأقامت معه في منطقة الهرم، وانقطعت عن النزول للشارع، إلا أن المرض الذي داهم الأب، وتسبب في وفاته دفعها مرة أخرى للنزول لتعول شقيقاتها: «جوزي اعترض شوية في الأول، لكن علشان كان بيحب اخواتي وافق على شغلي».
بوفاة الوالد فقدت «يسرية» الحماية القانونية التي كانت رخصة الأب تسبغها على مزاولة المهنة، وكان طبيعياً أن تتعرض لها شرطة المرور وتمنعها من الوقوف أمام الكلية والتعامل مع السيارات وأصحابها، ولم تجد أمامها إلا جمال السادات الذي كان أهم زبون لديها، فلجأت إليه: «بعت لي ظابط في عربية مرسيدس، وخدني لبيتهم اللي على النيل»، عرض عليها ابن رئيس الجمهورية أن يقيم لها كشكاً للبقالة كوسيلة للرزق غير أنها رفضت: «قلت له أنا مش قد مشاكل الكشك، وماليش غير في شغلانتي اللي بحبها» فما كان منه إلا أن أرسلها لأحد المسؤولين الكبار في مديرية أمن الجيزة، فتعهد الرجل بحمايتها.
سنوات طويلة مرت لا تعي ذاكرة «يسرية» المتعبة تفاصيلها الدقيقة، ارتفعت فيها أجرة ركن السيارات إلى 25 قرشاً ثم 50، ثم جنيهاً كاملاً، ووصلت الآن إلى 5 جنيهات، قبل أن تضع كلية الهندسة يدها على السور المحيط بها، فتمنع يسرية من العمل عليه، ولا يتبقى أمامها إلا بضعة أمتار تتسع لـ5 سيارات فقط: «دلوقت مابقتش باقدر أقوم من مكاني، قاعدة على الكرسي بحيث اللي عاوز يركن يشوفني قدامه وييجي يحاسبني».
تضحك «يسرية» وهي تستعيد كيف لعبت الفنانة سيمون دور «سائسة» أمام جامعة القاهرة في مسلسل «بين السرايات»، قبل أعوام قليلة: «همّ حوروا كتير في المسلسل، أنا لا حاطة صفارة في رقبتي ولا عندي محل، ولا ساكنة في بين السرايات زي ما جه في المسلسل، كنت باتفرج وأضحك، والطلبة اللي بيركنوا عندي وعارفيني كانوا بيضحكوا هم كمان».
ترفع «يسرية» يدها لتضبط وضع قبعة رياضية تغطي رأسها فوق الحجاب، في محاولة منها لتذكر ما سمعته عن قانون السائس الجديد: «زميلي اللي شغال جنبي بيقول لي المذيعين في التليفزيون بيقولوا علينا بلطجية»، لا تنفي يسرية أن هناك بلطجية تسللوا للمهنة: «المفروض الحكومة تمنع الناس اللي عليها أحكام وواقفة في الشارع»، أما هي فلا تنوي التقدم للحصول على رخصة: «أنا سني 70 سنة دلوقت، هاروح فين».
لم تعد «يسرية» تقوى على الخروج من منزلها في السابعة صباحاً، لتعود في الخامسة كل يوم كما اعتادت، كل ما ترجوه أن تتمكن من صرف معاش والدها بعد أن توفي زوجها تاركاً لها ابنتين وولد: «حاولت آخد معاش أبويا من 23 سنة وقت وفاة جوزي، وما عرفتش، يا ريت أقدر أصرفه دلوقتي».