جمعتنى والسفير الإريترى بالقاهرة، الصديق الكريم فاسيل جبر سيلاسى مائدة حوار مهمة ضمت مثقفين مصريين وإريتريين مهمومين بالشأنين العربى والأفريقى. كنت أتمنى أن أجد من يوثقها، وربما يكون صديقنا القديم السيد/ حبيب عثمان، المستشار الإعلامى لسفارة إريتريا، قد قام بمهمة التوثيق، بما هو معروف عنه من دقة ودراية وخبرة بدروب الإعلام المصرى.
فى هذا اللقاء نعى السفير فاسيل جبرسيلاسى -بخفة دم موروثة عن أمه المصرية- على النظام المصرى السابق لثورة 30 يونيو غيابه عن أفريقيا، وتلكؤه فى توظيف القواسم الاستراتيجية المشتركة -وهى كثيرة- بين مصر وإريتريا، بما يحقق مصالحهما القومية. فالدولتان تتحكمان فى مفصلين مهمين على البحر الأحمر، مدخله الجنوبى عند باب المندب ومدخله الشمالى عند قناة السويس. والدولتان يهمهما بالأساس ما يجرى فى القرن الأفريقى قريباً من حوض النيل والمحيط الهندى والخليج العربى. والدولتان تتماسان مع الفضاءات الاستراتيجية المشتركة العربية والأفريقية. نبهتنى دعوة السفير الإريترى لمؤتمر يناقش القضايا الاستراتيجية للبحر الأحمر يجمع الدول المتشاطئة إلى مخاطر مؤكدة وأخرى محتملة تترصد الأمن القومى المصرى فى البحر الأحمر. وما جرى فى اليمن أخيراً يعطى إشارة مسكونة بالخطر لا تمتلك مصر ترف تجاهلها وغض البصر عنها. ألم يعد لتنظيم «القاعدة» الإرهابى موطئ قدم ثابت فى جنوب اليمن، وصار الحوثيون وأنصار الله بمشروعهم السياسى الذى يدور فى فلك المشرع الإيرانى هم أصحاب الكلمة العليا فى صنعاء، فضلاً عن تزايد الأطماع الدولية فى البحر الأحمر؟!
هذه التغيرات الجيوسياسية عند باب المندب ستشكل مصدر تهديد محتمل لقناة السويس، لا يمكن لمصر أن تتهاون فيه أو تتراخى عن الانخراط فى الترتيبات الفردية أو الجماعية التى تضمن أمن البحر الأحمر، وتأمين الملاحة فيه ومراقبة ما يجرى فى مياهه الدافئة. وأمن البحر الأحمر ذو أهمية استراتيجية كبرى فى تعزيز أمن مصر القومى، ويستمد أهميته الاستراتيجية من موقعه الجغرافى الذى وفر للقوى الإقليمية والدولية إمكانية الوصول إلى المحيطين الهندى والأطلسى والبحر المتوسط، وزاد من هذه الأهمية اكتشاف النفط فى منطقة الخليج العربى، وسوف تزداد أهميته مستقبلاً مع توسع التجارة الدولية للصين ودول شرق آسيا، إذ يقدر أن تعبره فى عام 2030 نحو 30 بالمائة من الصادرات الصينية المتجهة إلى الغرب عبر قناة السويس، وبما جعله بكل المعايير الجغرافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية من أهم بؤر الصراع الدولى، فضلاً عن أهميته الكبرى فى الحفاظ على الأمن القومى العربى بصفة عامة وأمن البلاد المشاطئة للبحر الأحمر وأمن القرن الأفريقى بصفة خاصة.
وبسبب أهميته للاقتصاد العالمى وللأمن والاستقرار الدوليين فقد بات مطمعاً للقوى الدولية الكبرى وعلى رأسها الأطماع الأمريكية والإسرائيلية والإيرانية.
ولكل من هذه القوى الثلاث أسبابها التى تتعلق بمصالحها القومية فى البحر الأحمر والقرن الأفريقى والخليج العربى بغض النظر عن مصالح الدول المتشاطئة ومعظمها دول عربية.
وتحمل هذه الأطماع مخاوف من تحول البحر الأحمر إلى بؤرة للصراعات والحروب والتدخلات الإقليمية والدولية النشطة. بعض هذه الأطماع الدولية قد تجد فى التطورات الإقليمية الأخيرة مبرراً لتحقيق أهدافها وفرصة لتعظيم مصالحها. ألم تأتِ الاضطرابات السياسية المتأججة فى اليمن بقوى الإرهاب الدولى مثل تنظيم القاعدة، وبعض الحركات الأصولية ذات الأجندات الخارجية مثل الحوثيين، قريباً من البحر الأحمر وباب المندب؟! أولم يؤدِ انهيار الدولة فى الصومال إلى هيمنة «تنظيم الشباب المسلم» التابع للقاعدة على مفاصل الحكم فى مقديشو؟! ألا تشكل القرصنة البحرية فى بحر العرب تهديداً للتجارة الدولية والملاحة البحرية فى قناة السويس؟!.
قد تجر هذه التطورات الإقليمية مخاطر لا بد من التحذير منها وتدارك تداعياتها وهى «مخاطر التدويل» الذى قد يفضى إلى انتزاع قوى أجنبية لحقوق مكتسبة فى البحر الأحمر والقرن الأفريقى تتعارض مع مقتضيات السيادة العربية. فالوجود العسكرى تحت تيار مكافحة القرصنة قد يساء استخدامه لتحقيق مصالح إسرائيلية أو إيرانية أو أمريكية من خلال الضغط على دول المنطقة والتدخل فى شئونها الداخلية. وقد تغذى عربدة الأساطيل الأجنبية فى بحر العرب وخليج عدن بحجة مكافحة القرصنة البحرية شكوكاً تحوم حول مسئولية بعض الدول الأجنبية الكبرى عن «صنع» جماعات القرصنة وتمويلها، لإيجاد ذريعة لبقاء هذه الأساطيل، والحصول على قواعد عسكرية ثابتة فى الجزر المتناثرة عند مدخل البحر الأحمر. وقد تجلب الوصاية الدولية على البحر الأحمر وحركته الملاحية أضراراً مؤكدة على الدول العربية الست المطلة عليه، خصوصاً أن هذه الوصاية قد تتم بعيداً عن الأمم المتحدة، مما ينذر بتضارب مصالح مؤكد بين دول وافدة لها أطماعها ودول أصيلة لها حقوقها الثابتة فى البحر الأحمر وثرواته الطبيعية. وقد يهدف التدويل أيضاً فيما يهدف إليه إلى إيجاد موطئ قدم لإسرائيل فى الصومال، الذى يتحكم فى المدخل الجنوبى للبحر الأحمر الذى تسعى إسرائيل لتأمينه من هيمنة قوى أصولية إسلامية قد تعترض مرورها الآمن إلى شرق أفريقيا وجنوب آسيا وتهدد أمن حليفتها إثيوبيا، وهو ما يعطيها كلمة فى شئون البحر الأحمر توفر لها إمكانية حصار الدول العربية وإحكام قبضتها على مدخل البحر الأحمر الجنوبى، والتحسب لأى حصار بحرى عربى فى المستقبل، وهى لم تنس بعد حصار البحرية المصرية لباب المندب فى حرب أكتوبر 1973، وقتها كان البحر الأحمر بحيرة عربية مغلقة بامتياز!
إن مكافحة الإرهاب الدولى وحماية الملاحة البحرية فى قناة السويس وتأمين المصالح الاقتصادية لأشقائنا فى الخليج العربى والقرن الأفريقى كلها أسباب كافية للاهتمام المصرى بتأمين البحر الأحمر ونسج وشائج وثيقة للعلاقات الاستراتيجية مع كل المعنيين بهذا الأمن فى الفضاءين العربى والأفريقى.