جمعنى لقاء موسّع مع بعض المتخصصين فى العلوم السياسية والعسكرية قبل عدة أيام، وكان موضوع الحوار بيننا القوة العربية المشتركة. كان الشىء اللافت للنظر هو وجود اتجاه عام بين المتحاورين يرفض الفكرة من حيث المبدأ، ويبرر هذا الرفض بمبررات مختلفة. قيل أولاً إن المطروح علينا قوة إسلامية وليست عربية، بدليل دعوة دول مثل باكستان وتركيا للمشاركة فى عملية «عاصفة الحزم»، أكثر من ذلك فإن هذه القوة مؤسسة على أساس مذهبى (سنى) لمواجهة تمدُّد النفوذ الإيرانى فى الوطن العربى. وقيل ثانياً إن الهدف المعلن لهذه القوة هو محاربة الإرهاب، فيما الإرهاب مصطلح غامض لا اتفاق عليه، فمن التنظيمات الإسلامية المتشدّدة ما تصفه دول عربية بالإرهاب فيما تدعمه دول أخرى. وقيل ثالثاً إنه لا توجد سياسة خارجية عربية موحّدة، بل تتعدّد السياسات الخارجية للدول العربية بحكم تنوّع مصالحها واختلاف مصادر تهديدها، وزاد أن الجيوش العربية متفاوتة من حيث التدريب والتسليح والخبرة القتالية، مما يجعل قيام قوة عسكرية عربية متجانسة أمراً مشكوكاً فيه. وقيل رابعاً إن هناك بعض الساحات التى قد يبدو التدخُّل فيها مطلوباً، لكن هناك «فيتو» مسبقاً على مشاركة أى قوة عسكرية عربية فى فض نزاعاتها الداخلية، وجرى الاستشهاد بالحالة العراقية. وقيل خامساً إنه من خلال المعلومات المتداولة يقدّر قوام القوة العسكرية العربية بما بين ٢٠ و٣٠ ألف جندى، وهذا يجعلنا أقرب إلى الحديث عن حلف عسكرى منا لإنشاء قوة مشتركة، ولما كان الوطن العربى قد دفع ثمناً غالياً لسياسة الأحلاف العسكرية فى فترة الخمسينات فالأمر لا يغرى إذن على التكرار. وقيل سادساً إنه لا قوة عسكرية ضاربة لدولة أو لمجموعة دول تغيب فيها الديمقراطية. وقيل أخيراً بما أن إيران هى طرف ضالع فى العديد من مشاكل الوطن العربى، وبالتالى سوف تستهدف نفوذها القوة العربية المشتركة، فالأجدر بمصر أن تفتح حواراً معها بدلاً من مواجهتها.
أصابنى مناخ الحوار بقدر لا بأس به من الإحباط، باختصار لأنه عدّد المشاكل التى تواجه القوة العربية المشتركة من دون أن يقدم بديلاً، وكأنه بذلك يوافق ضمنياً على استمرار التدخلات الإقليمية والدولية فى قضايانا العربية طالما لا نمتلك الجاهزية لأخذ زمام المبادرة. بداية لا أحد ينكر أن ثمة مشكلات تواجه إنشاء القوة العربية المشتركة، وكل المشروعات الكبرى تواجهها مشاكل لكنها تتعامل معها ما توافرت لها الإرادة، لكن أيضاً لا أحد ينكر أن أمامنا الآن فرصة تاريخية لتنفيذ الفكرة التى سبق طرحها فى عام ١٩٦٤ فى إطار مواجهة مساعى إسرائيل لتحويل مجرى نهر الأردن، وكانت قاب قوسين أو أدنى من التحقيق قبل إحباطها، لأسباب يضيق عن تفصيلها هذا المقال، وكل الخشية أن يسلمنا هذا الهجوم على المشروع الجديد إلى مصير مشابه.
فى تحليل أوجه النقد التى أبداها معارضو المشروع يلفت النظر إلى أن هناك خلطاً واضحاً بين القوات المشاركة فى عملية «عاصفة الحزم»، وبين إنشاء قوة عربية مشتركة، فالأولى جاء تشكيلها لحظياً لمواجهة توسع الحوثيين فى اتجاه الجنوب اليمنى، وسوف تنفض بمجرد انتهاء مهمتها، ومن هنا فإن الحديث عن دعوة دول إسلامية غير عربية للمشاركة فيها تقيد بهذا الظرف التاريخى وإن كنت شخصياً ومنذ اللحظة الأولى ضد أسلمة «عاصفة الحزم»، أما الثانية فأمرها يختلف بالكلية لأنها ستخضع للبحث وستكون على شاكلة القوات الأفريقية الجاهزة للتدخل فى إطار منظومة الاتحاد الأفريقى، وبالتالى فليس من الوارد أن تكون غير عربية. وفيما يخص القول بعدم تحديد المقصود بالإرهاب، قيل كلام مهم عن أنه ليس من المطروح بداءة على الجيوش النظامية أن تواجه إرهاباً مستتراً، لكن المطروح هو وقف تمدّد الإرهاب المنظم القار الذى يقضم أقاليم الدولة ويخضعها لسطوته بقوة السلاح على شاكلة ما يحدث فى العراق وسوريا، أما الجزئية الخاصة بسؤال هل يوافق العراق أو هل يمكن تنفيذ ذلك فى سوريا، فلا ينبغى أن ننسى أن تدخل القوة العربية المشتركة مشروط بتقدم الدولة المعنية بطلب التدخل العربى، كما أن هذه القوة ليست جامعة مانعة تتدخل فى كل ساحة وتباشر صلاحياتها بصدد كل نزاع أولاً لأن هذا يتجاوز حدود إمكانياتها على الأقل فى المدى القصير، وثانياً لأن من المفترض أن يخضع قرار التدخل لحساب دقيق لحدود المكسب والخسارة. وبالنسبة للتحذير من تفاوت القدرات العسكرية للدول العربية بوصفه من معوقات تشكيل القوة العربية المشتركة، نذكر بالتفاوت الكبير بين القدرات العسكرية لمكونات الاتحاد الأوروبى أو لدول حلف شمال الأطلسى هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه من المتصوّر أن يسمح تعدد أشكال المشاركة لكل دولة بأن تشارك بما يناسبها من مهام. ويتصل بهذه النقطة ما أثير عن أن ما تعتبره إحدى الدول تهديداً لأمنها القومى لا يعتبره غيرها كذلك بالضرورة، وهذا أمر مقبول، ومن هنا فإن تنظيم القوة العربية هو تنظيم مرن قد تكون نواته من دولتين أو ثلاث دول تزيد لاحقاً تبعاً لنوع التهديد، هذا بالطبع مع تأكيد بعض الثوابت، وأهمها الخطر الإسرائيلى على الأمن القومى العربى، ومن هنا أهمية توافر الرؤية السياسية. أما مسألة أن الكيان المزمع إنشاؤه أقرب للحلف منه إلى القوة المشتركة، فقد سبقت الإشارة إلى التجربة الأفريقية، كما أن للأمم المتحدة تجاربها فى نشر قوات حفظ السلام فى العالم، أخذاً فى الاعتبار أنه يُفترض أن تشمل مهام القوة العربية فض النزاع وبناء السلام، وفى كل تلك الحالات ينصب الحديث على قوات لا أحلاف. تبقى النقطة الخاصة بأن الحوار المصرى مع إيران أولى من مواجهتها بقوة مشتركة، والواقع أنه مع أهمية التفكير فى فتح حوار مع إيران، إلا أن هذا لا علاقة له ألبتة بعدم بناء قوة عربية مشتركة، اللهم إلا إن كان المقصود هو أن نتفاوض مع إيران من موقع ضعف، كما أن بناء الديمقراطية لا يتعارض مع بناء القوة العسكرية.
إن وضع موضوع القوة العربية المشتركة على أجندة القمة العربية وصدور قرار بالموافقة عليها كان إنجازاً يجب ألا نقلل من أهميته أو نثبّط من همم القائمين عليه، دونه تعقيدات هذا معلوم بالضرورة لكن لنترفق بأنفسنا ونأخذ ما تحقق فرصة للبناء بدلاً من أن نسارع بالهدم، فلا أسهل منه ولا أهون.