سأحدثكم عن الوهن، حين يتسلل لأوردة الروح، فيصيبها بالسقم، يتحول البدن أشلاء تطفو على شفا ماء راكد، فهل تماهت رفات الذات بجثمان البلد؟ أم أن الكابوس الغامض والسرى قد فرض قانونه على الأشياء، فأوقف سريان الماء وعطل نبض الشرايين؟!
اعتاد المصرى -الغلبان- أن يشهق من عز الفرح قائلاً: «خير اللهم اجعله خير»، يستكثر على نفسه السعادة فيؤهل نفسه للأحزان، قادر دائماً على الانتصار فى قمة الانكسار والعكس، لا تكتمل عنده الأفراح، ولا تطيب له الأتراح. ففى ذروة الإحساس بنشوة النصر المبين فى ثورة يناير، رقص وبكى وقفز لأعلى رافعاً رأسه إلى فوق الفوق، ثم ما لبث أن وضع يده على قلبه، وشدته ضرورات الحياة للانحناء، حتى بدا كالمهزوم المنسحب من معركة غير متكافئة، شعر بأنه فر من الرمضاء للنار، ومن حيتان بحر الفساد إلى ديناصورات العصور البدائية، رأى فى تغير الظالمين نوعاً من الاستقرار، فأعطى زمام نفسه لخير أجناد الأرض، فباعه مجلسهم بالتفاهمات الثنائية والثلاثية، وحين تأكد أنه خرج من كل الحسابات، رمى بحموله على أكتاف الجماعة، فلما استقرت سفينتهم على الجودى وغيض الماء، ألقته الجماعة بأحماله فوق صخور مدببة! أصحاب الوعى عادوا للميادين لاستعادة الزمام، وأصحاب المصلحة انكفأوا ذاهلين، يقلبون فى صناديق القمامة عن بقايا حياة. جماعة النخبة تقدس الشعب فى مراسم العزاء، وجماعة الحكم فى غيهم يعمهون، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، الشعب -فقط- جماعتهم.
يا من تخرقون السفينة، لقد أغرقتم كل أهلها، وجئتم شيئاً نكراً، كفاكم تصفيقاً و(فشخاً) للأفواه، وهتافاً وتهليلاً بالعبودية والرق الدستورى.
لا عصمة لكم، ولا حصانة لوليكم، ولا منعة لقصوركم ومواكبكم، فوالله ما أنتم وسابقوكم ولاحقوكم فى الحياة الدنيا إلا كذرة فى جناح بعوضة، حاذروا من ألسنة الخلق فهى أقلام الحق، ما عندكم - كله- ينفد، وما عند الله باقٍ، فلا تشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، أوبوا إلى الشعب، يقبل الله أوبتكم.
الميادين تحاصركم، فلا تولوا الأدبار، أو ترفعوا ألوية الخصام اللدد، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعتصموا بحبل الوطن النجاة.
الحريق -الآن- يأكل الأخضر، فلا تتركوه يأكل اليابس.
يا أيها المدثر بعباءة التنظيم والتوافقات والتواطؤات، قم وأنذر عشيرتك المقربين، الذين تباهى بهم الشعب الواحد، أطفئ النار، ولملم الأشياء، قبل أن تتحول إلى آية، حينما ينشق بحر الغضب فيبتلع كل صولجانك. المناعة الوطنية فى أضعف حالاتها، فاستمرار الظلم والغموض وخيبات الإدارة، والعناد الساذج، يقتل إرادة الفرد والمجموع، ويزحف إلى تعاريج الوجه تكشيراً واكتئاباً. الحكم مظلة للأمان النفسى والبدنى للمجتمع، فإذا به كالعراء المقيم تحت سماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، أكاد أشعر بارتعاشات الأجساد، وبرودة الأعضاء، التى لا يجدى معها شعار قصر الاتحادية، (احضنوا بعض) ولا عبقرية الوزارة (البسوا قطناً). الفوضى ليست بديلاً عن استقرار السلطة والسلطان، كفوا عن تكرار ما قاله سابقوكم، فلو كانوا يعقلون ما خلعهم الشعب، ورقص فوق أكاذيبهم.
لا أريد قراءة المشهد الآن بأدوات التحليل السياسى، أو الرؤية العقائدية، لأنى أشعر أن جرح الوطن قد رسم فوق بدنى خارطة كاملة من الآلام والأحزان، وأتعجب كيف يشعر البعض بالسعادة، ويظهر فوق الشاشات، كالطيور الجوارح، فاغراً منقاره، بينما دماء الضحية تسيل على شدقيه.