(1)
أتلفّت بوجل، مقاوماً مخاوف وإجابات لأسئلة كثيرة، تختلط فيها البدايات والنهايات، وأتساءل ما هذا الذى يحدث فى مصر؟!.. ما الذى يجرى ونراه رأى العين؟!
أنا لا أصدق فى أحيان كثيرة أننا بالفعل نعبر فترة تحولات! جموع تحتشد ضد جموع.. شعارات تتجاوز الواقع وتستدعى مملكة السماء.. دعوات لنهضة يائسة لا ملامح لها، تلوذ بالدعوة للحوار فى الوقت الذى يجرى فيه قمع الحوار بسطوة التعصب، واستحضار قيم من الماضى تمايز بين أهل الوطن الواحد.. استدعاء ضرورات تنادى بدولة دينية يقودها الفقيه والمرشد وتؤكد على التناقضات والاختلافات فى انتظار حسم ذلك الصراع لصالحها!
(2)
يوم الجمعة فى الساعة الخامسة والربع، خرج شاب من ظلام الليل.. ذكرى يجب أن تذكر ولا تغيب عن البال.. أنا رأيته نحيلاً ومريضاً ويعيش على هلاوسه.. اقترب من السيارة التى تقل نجيب محفوظ حيث ندوته هناك على النيل.. ظن كبير المقام أن الشاب يود أن يقدم له التحية، ولأن صاحب نوبل صاحب طبيعة سمحة ومؤاخية، وأمضى عمره يعامل البشر بسماحة ومودة، يسبقه ذلك التواضع الذى كان يدهشنا.. كان يتهيأ لمصافحة الشاب، إلا أن ذلك العاصى كان يحتشد بالغل والحقد، ويصرخ دمه بما تلقاه من أميره، عداوةً وحقداً.
لحظة وكانت السكين فى عنق الكاتب الكبير تمزق شرايين العنق، وتدور فيه حافرة جرحاً فى قلب وطن.. يصف نجيب محفوظ اللحظة: «كأن مخالب وحش ضارٍ قد نشبت فى رقبتى»!
تخويف من ينادى بأفكار الدولة المدنية، أو أفكار التنوير.. رسالة ظلت تحمل تاريخ عنقها، وتؤكد حقيقة ذلك العنف الذى يسيطر على الشارع الآن صارخاً فى وجوهنا: التعصب تحول إلى قاعدة وليس استثناء!
(3)
عاش نصر أبوزيد -الذى رافقته العمر كله- يؤمن ويدعو لاستعمال عقولنا فى كل أمور حياتنا، ووهب عمره مقاوماً كل سلطة تحجب وعى الإنسان عن معرفة حقيقته.
رحم الله نصر أبوزيد الذى تحمل الكثير ودفع ثمناً فادحاً، بسبب من مواقف واجه فيها سلطة القمع الفكرى، والاستعانة بالغيب! وكان، عليه رحمة الله، من المؤمنين بقول الإمام مالك: «من صدر عنه ما يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهاً ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمل أمره على الإيمان».
(4)
أمكث هناك..
بين السبيل المنقوش بالتركى، وجسامة مسجد السلطان، وأقيم فى الفجر على مقعد من رخام، مستسلماً لأحلام يقظة لا تنتهى.. أنا فى فضاء ما قبل الفجر.
تهمد دبة الآدمى، وقبل الفجر بقليل يخلو شارع المعز إلا من هسيس أرواح الموتى الهائمة بين الدروب والأزقة والعطوف! أهرب من قلق الليل، وجفا النوم، وأهبط الجبل، وأكون بين هيكل القلعة، والسكة الهابطة مثل سائح غريب.
أغادر مارستان وتربة قلاوون، ومجموعة الناصر محمد، أصل مسجد الحاكم بأمر الله.. كانوا قد انفضوا من صلاة الفجر ومضوا، وأنا بالقرب من باب الفتوح أرقب أول لمعة للنهار.. وكانوا هناك.. قادمين من أقصى الأرض، وأنا لا أعرفهم، ولم أقترب منهم.. يهبطون من حافلة، رجالاً ونساءً وصغاراً، كلهم يرتدون سراويل فضفاضة، وصدارى من حرير.. كانوا مقبلين بعد الفجر، مع آخر خيوط الليل، يقيمون شعائرهم!
من هؤلاء؟!.. من أين يجيئون؟!.. وأنا مندهش لإقامة صلاتهم بعد الصلاة!.. قادمون لزيارة أبى تميم أحمد الملقب بالحاكم بأمر الله.. المجنون.. العالم.. الفيلسوف.. أكثر حكام الدنيا تناقضاً.. إلا إنهم كانوا يؤمنون به.. ويؤمنون بعودته.. من الذى يقف فى وجه عقائد الناس؟!
قادمون يفتشون فى العمائر القديمة عن يقينهم!
فسبحان الله الذى عدّد أشكال اليقين!