ينتهى العم «مطاوع عبدالصبور أبوالعزايم» إلى الاعتقاد، ثم إلى التصديق أن شعب مصر هذا القديم، فى بعض أحواله يثير العجب!! ويهمس متعجباً: رحم الله «محمد ابن أحمد ابن إياس الحنفى»، الذى رصد، وعن تجربة، أحوال المصريين، فقال «إن أخلاق وطبائع المصريين بعضها شبهها ببعض، وعندهم سرعة الخوف من السلطان، وأخلاقهم يغلب عليها الاستحالة، والانتقال من شىء إلى شىء، ومن معايبهم كثرة الجدل فيما لا يفيد، وخلق العداوة بينهم عند الاختلاف».
يتذكر «مطاوع» أنه أمضى عمره يؤمن بحق الاختلاف عند طرح القضايا، ويؤمن بحرية الاعتقاد الذى يتأسس على العقل والفهم.
يتذكر أنه كان يقيم قديماً، منذ سنوات بعيدة فى ذلك الحى المنعزل، الذى يشبه القرى فى الضواحى النظيفة، كان أحد الأغنياء قد أقام مسجداً بهياً، ومعماره الإسلامى تحفة من التحف، وأحاطه بحديقة من شجر الزيتون، وزرع أمامه شجرة بنسيانا تزهر فى الربيع بزهرها الأحمر النارى. كنا نحن رواد المسجد نجلس تحتها قبل الصلاة وبعدها. كانوا جماعة من أهل الحى. الأزهرى والمحامى والمدرس والموظف وطالب العلم وبعض التجار المستورين، وشخص آخر يعيش على ريع قديم لمنزل واسع مثل المتاهة، يحرسه، ويقيم فى دوره الأول، لاعمل له إلا تحصيل ما تدره العين، والادعاء بالإفتاء فيما لا يعرف، وفيما يجهله. كان يعيش بين زمنين مظلمين، يعطى لنفسه حق امتلاكه الحق وحده، ويدافع عن وعيه، وفهمه الشخصى للدين بحالة تصل إلى حد الاعتداء بالباطل على الحاضرين، باللسان والفظاظة، وكنا نلاحظ انفعاله عندما يفور فمه بزبد أبيض، وقبيح الكلام، وكنا لا نستطيع ردعه، أو الخلاص منه. يصرخ فى وجوهنا: «أنا قلت إن الإسلام هو الحل، يعنى الإسلام هو الحل».
ينفعل، ويكفهر وجهه. كان طويلاً مثل مارد، ونحيلاً، يرتدى جلباباً أبيض، ويعمم رأسه بشال يتهدل ذيله حتى قفاه. كان أعور العين، وحين يحدق فى الجميع تبدو عينه السليمة مثل الزجاج، وتصدمنا الأخرى بما يشبه الدمل المطموس. كان أسيرا للفتاوى الشائعة، تكوّن علاقته بالدين والعلم، تربى على يد شيوخ السكك، ووعاظ الجمعيات السرية من أهل الخرافة، ومدمنى الأساطير!!
يصرخ فينا بعالى الصوت، مهدداً:
- المرأة للمتعة، خلقها الله مصدراً لها.
يصمت لحظة، ثم يصرخ فى وجوهنا، مشيراً بإصبع يشبه المخلب: شاهد رجل من أهل زمان امرأة شنقت نفسها فى شجرة، فقال فى شماتة: ياليت كل الأشجار تحمل مثل هذه الثمار. ينزعج شيخ الأزهر، الجميل، الشيخ محمد عطاء الله، سمح الوجه، أبيض اليد واللسان:
- يا عم عبدالقادر...
يقاطعه بصلافة: اسمى الشيخ عبدالقادر
- يجيب الشيخ:
- طيب يا سيدى الشيخ، علاقة المرأة بالرجل فى الإسلام، علاقة تكاملية، تقوم على المودة والتراحم، والثقة المتبادلة، ولا مجال لامتياز رجل على امرأة، أو العكس، وهما متلازمان معا فى الحياة حتى رحيلهما، حيث وجه الله الكريم.
يصرخ: هذا كلام مغلوط، كلام محدثين، هؤلاء الذين أثروا على عقلك فتبعتهم بغير إحسان. ثم يا أخى أنت لا تعرف الفتوى. والأزهر أفسدكم جميعاً.
نصيح فى وجهه «اتق الله يا رجل».
ينهض، ويبدو مثل كائن خرافى. يصرخ فى وجوهنا، أنتم مثل هذا الأزهرى الآبق. وأنا من سلالة السلف الصالح، الوارثين لدين الله وحدهم. وقعدتى معكم ضياع لدينى..
ينصرف عبدالقادر ليعود غداً، ورويداً، رويداً تحول إلى موضع سخرية الجميع، واستخفافهم، حتى انقطع دابره تماماً!!
وتمر السنوات بالعم مطاوع، ويعيش متغيرات الدنيا، وتصارع أفكارها، ويقضى أزمان المظالم، وغياب العدل، والحيوات السرية، والغنى الباهر يحط على البعض مثل الأحلام، وتنتشر قنوات التليفزيون على جباه الوطن مثل الفطر، وهو بين الحين والحين يقلب القنوات، باحثاً عن شىء يفيده، وعبر زحمة الألوان، يشاهد فى قناة دينية يزخر ديكورها بالآيات؛ وصور الكعبة، وهامة المساجد، يحدق أمامه فيرى شيخاً بهياً بثوبه الأبيض وغطاء رأسه الخليجى وذقنه الذى يشبه نتف القطن، جالساً فى مهابة العلماء، يأتى صوته حيث يجلس العم «مطاوع» نائحاً، ومنفحماً بالبكاء، يمسح دموع عينه الوحيدة، ويتكلم عن عذاب القبر، والثعبان الأقرع، وجسد المرأة الزانية، وحول يوم الحساب، والجلود التى تنضج لتذوق العذاب حتى يوم الدين.
لحظتها ركز مطاوع انتباهه وتأمل الشيخ المهيب، فوراً صرخ بعالى الصوت:
- يا نهار أسود.. عبدالقادر؟!