ما الذى يدفع شباباً وفتيات لأن يتظاهروا رغم يقينهم أن نسبة الحكم عليهم بالحبس عالية، بدليل أنهم يوصون ويتحوطون لما ينبغى عمله عندئذ؟
إنهم يطالبون بقيم عامة -لا خاصة- وهم لا يعانون شظفاً ولا بطالة ولا خيبة، ويُفترض أنهم فى سنهم هذه يسعون إلى لهوهم وطموحهم بدلاً من الإقدام على دخول السجون.المدهش أنهم فى قضاياهم العامة أشجع وأفعل من جماعات لها مطالب خاصة.
يا حبذا لو أن كثيرين من معتقلينا السياسيين فى الماضى والحاضر سجلوا لنا ذكرياتهم ووقائع يومهم وسيرتهم وتأملاتهم الفكرية والوجدانية وهم داخل السجون وليس بعدما خرجوا منها. نادرون من احتالوا ليحصلوا على الأوراق والأقلام خلافاً للتضييق المستمر.
يحكى الصحفى مصطفى أمين، الذى سجنه «ناصر»، أنه كان يفعل الأعاجيب ليهرب الأوراق والأقلام لكى لا يحرم من الكتابة، وكان أحد النافذين ألمح وقال وكأنه يفضحه: هل نقول أين كنت تخبئ القلم وأنت فى الزنزانة؟! وذلك رداً على «مصطفى» بعدما هاجم وسخر من نواب البرلمان الذين هرعوا جميعهم وفى وقت واحد من حزب مصر إلى الحزب الوطنى لمجرد أن رئيسه السادات، فشن عليه السادات هجوماً مريراً وتبعته الجوقة التى ترقص وتغنى فى مثل هذه الحالات.
الوقائع تكشف لنا أن مناضلينا وأهليهم فى سبيل الحرية لاقوا من العنت والمعاناة ما هو أكثر قسوة وحيوانية وأفظع إيلاماً وأقل إنسانية مما لاقاه غيرهم فى بلاد أخرى، وأن منهم من هو أكثر صلابة وبأساً من «جرامشى» المفكر والسياسى الإيطالى الشهير الذى صار بفضل ستة مجلدات كتبها فى سجنه سميت «الرسائل»، ملهماً ونبراساً يشير للإرادة الإنسانية والصمود والقوة التى يتمتع بها صاحب الفكر والرأى والموقف، فعلى الرغم من أن «موسولينى» الفاشى كان يحكم إيطاليا إلا أن «جرامشى» كتب المجلدات وكان يقرأ باستمرار الكتب والجرائد ويطلب فى رسائله لأمه عناوين محددة لترسلها له، ويذكر أنه توقف عن قراءة بعض الجرائد حتى يستطيع مجالسة بعض المساجين، ويقول لها إن أختى غير الشقيقة تأتى لى كل يوم إلى السجن حاملة ما لذ وطاب من الطعام والشراب، لدرجة أنى أشعر بالخجل من شدة تفانيها الذى لا نجده عند الشقيقات.
ونحن نقرأ هنا شكاوى من محامين ومنظمات حقوقية ومن أهالى محبوسين سياسيين، أنهم يُمنعون من زيارة ذويهم لشهور عديدة أو يرونهم خلال جلسات المحاكمة فقط، وبعضهم لا يقابله إلا من خلف زجاج أو من على بعد، ثم إنه لا يسمح أحياناً بإدخال طعام وقد يفتش عمداً بطريقة تفسده أو بخلطه على بعضه، هذا غير ما تحدث عنه المعتقلون من إهانات وضرب وتعذيب لا يليق بالدولة المصرية أبداً. مثل هذه الإهانات للكرامة الإنسانية لن تؤدب أحداً ولن تخضع أحداً بل ستفاقم الغضب ورد الفعل، كما أنها تنتقص من مكانة البلاد وصورتها على المستوى الدولى للأسف وما يترتب على ذلك اقتصادياً وسياسياً.
هناك إذن من الأمور ما هو أشد قسوة مماحكى عنه «جرامشى» فى سجون «موسولينى» منذ قرن، وبذا فنحن الأكثر إلهاماً وصبراً!
يقول «جرامشى» لأمه: الأمر يحتاج الصبر والصبر، وأملك الأطنان منه بحجم السيارات والمنازل جميعها، هناك الكثير من المعاناة والجروح ولكن أيضاً شىء من الفرح والجمال، الأمر يتعلق بالسياسة. تعرفين كيف نهدد الأطفال الذين يتبولون فى الفراش بالحرق بشوكة معرضة للهب، هنا فى إيطاليا طفل كبير جداً يهدد بالتبول فى فراشه.. أنا وعدد قليل آخر رأس الشوكة الملتهب نلوح بها لتهديد هذا المزعج. من الواضح أننى لن أبقى هنا أكثر من ثلاث سنوات حتى لو أُدنت بعشرين سنة.. كونى صبورة وقوية ومطمئنة على صحتى الجسدية وحضورى الذهنى.. يستطيع رأسى تحمل ضربات مطرقة الأحداث التى ألمت بى والتى ستصيبنى مرة أخرى. لست فى حاجة للرأفة ولا المواساة. طمئنينى على الجميع. هكذا سأل أمه.
ربما لهذا لا يفكر فتياتنا وشبابنا فى ذواتهم ويريدون الاطمئنان على الجميع!