ارتفع سعر كيلو الأرز خلال عدة أشهر من ثلاثة جنيهات إلى سبعة، وارتفعت خلال العام الماضى أسعار الكهرباء والمياه والغاز، وكذلك أسعار الخدمات الطبية والأشعات والجراحات عدة مرات، فى الوقت الذى ضعفت فيه كل الخدمات الصحية الحكومية وضعف التأمين الصحى عن ذى قبل بدرجة ملحوظة. كما ارتفع الدولار عقب ثورة 25 يناير وحتى الآن، حتى وصل إلى معدلات قياسية لم تحدث من قبل، فقد تجاوز حاجز العشرة جنيهات، مما أثّر على أسعار سلع استراتيجية كثيرة مثل الحديد والأسمنت والأدوية، فقد اختفى من السوق المصرية فى العام الماضى مئات الأصناف من الدواء ظهر بعضها بعد ذلك بسعر مرتفع أو بجرعة مخفضة. أما نفقات التعليم فقد تضاعفت أضعافاً بعد اعتماد المنظومة التعليمية المصرية على الدروس الخصوصية من «K.G1» وحتى الجامعة، والأدهى من ذلك هو غزو الدروس الخصوصية لمنظومة التعليم الجامعى فى معظم الكليات بدءاً من الطب والصيدلة وانتهاءً بالتجارة والآداب، بحيث أصبح كل بيت يشكو من الدروس الخصوصية التى تمتص معظم دخل الأسرة المصرية.
فإذا أضيف إلى موجة الغلاء الفاحشة التى ضربت مصر عبر السنوات الأخيرة زيادة البطالة مع نقص فرص العمل مع إغلاق بعض المصانع، كل ذلك أدى إلى تآكل الطبقة الوسطى المصرية التى هى عماد أساسى من أعمدة المجتمع.
فالطبقة الوسطى هى حاملة القيم فى المجتمع، وهى أيضاً الحامية لها، فالطبقة الوسطى هى التى تحمى المجتمع من التآكل، وهى الوحيدة التى ترفض العزلة الطوعية التى وضع فيها بعض كبار الأثرياء أنفسهم وعاشوا فى حالة انفصال مع أكثر الناس ودون مشاركة لهم فى أفراحهم وأحزانهم، ورفضوا كذلك العزلة الإجبارية التى أُجبر عليها سكان العشوائيات ليعيشوا فى أماكن تنقصها الخدمات والمرافق الأساسية ولا تجد فيها تعليماً ولا صحة جيدة وتكثر فيها الجريمة والمخدرات.
الطبقة الوسطى هى التى ترفض نوعَى العزلة، وتُقبل على الناس جميعاً، وتساهم فى حل مشكلات المجتمع وتربيته وتثقيفه ونشر الأمان الاجتماعى فيه. وإنهاك الطبقة الوسطى المصرية أو الضغط عليها بقسوة يضر الأمن القومى ويضر المجتمع ويؤدى إلى تآكل الطبقة الحامية له، ويجعل هذه الطبقة تلهث طوال الوقت نحو العمل الخاص والكسب السريع أو الحرام لعلها تلحق بقطار الأثرياء أو تؤمّن حياتها ولو على حساب غيرها.
فمن المعروف أن الطبقة المتوسطة هى التى تحملت كل الأزمات التى حلّت بمصر بداية من حرب 56، نكسة 67، وهى التى كانت الوقود الرئيسى لنصر أكتوبر سنة 1973، وهى التى كوّنت النواة الأولى للنقابات والجمعيات الخيرية والصحف والجامعات والمدارس.
هذه الطبقة الوسطى إذا افتقرت بشدة فإنها قد تنحرف تحت ضغط الحاجة أو يلجأ بعضها إلى التطرف الدينى أو الإلحاد أو العنف أو كراهية المجتمع، فتتحول بذلك من صمام أمان إلى عامل هدم، وقد تتحول إلى الفساد والرشوة أو البيروقراطية.
وبدلاً من كونها رمزاً من رموز الاعتدال قد تتحول إلى رمز للتطرف أو الفساد، وكلاهما شر مستطير.
لقد كان للرئيس عبدالناصر أخطاء فى حكمه، لكن من أهم حسناته أنه الصانع الحقيقى للطبقة الوسطى التى انتعشت كثيراً فى عهده، ولو أنه أعطى الديمقراطية والحريات العامة قبلة الحياة لصنعت الطبقة الوسطى مع الرأسمالية الوطنية والعمال والفلاحين نموذجاً يحاكى النموذج اليابانى أو الكورى الجنوبى.
الآن الطبقة الوسطى تتآكل بفعل ضربات الأسعار والبطالة وفشل التعليم وانهيار منظومة الصحة الحكومية وزيادة أسعار الخدمات وانهيار المجتمع المدنى وتآكل النقابات وضعف الجمعيات الخيرية.
ولكى تعود الطبقة الوسطى لحيويتها وفعاليتها لا بد من لجم ارتفاعات الأسعار، وإصلاح المنظومة الصحية الحكومية وإصلاح التعليم ووقف زحف البطالة وتنشيط الصناعة، ومحاربة الفساد والرشوة، وتقوية النقابات والجمعيات الخيرية ومؤسسات الرعاية الاجتماعية، وتجديد النخب بحيث تعتمد على الكفاءة لا الثراء ولا المحسوبية أو الوراثة، فهل نستطيع ذلك قبل أن يدهمنا قطار الدولار والأسعار؟