طفحت ثقافتنا وفاضت أساليبنا وعمت طريقتنا على الأثير العنبكوتى حتى انقلبت أدوات التواصل الاجتماعى شباشب زنوبة وملاءات مفروشة ومكائد منصوبة. وسخَّرنا جهودنا ووظَّفنا طاقاتنا ووجهنا عقولنا وأوفدنا قلوبنا لهذا الأثير الافتراضى لبث الفتنة تارة ونشر الفوضى تارة، والهرى والهرى المضاد تارات وتارات، والنيل من هذا وكيد ذاك والغمز والهمز واللمز على هؤلاء وأولئك على مدار الـ24 ساعة. وحيث إننا شعب متدين بالفطرة وملتزم بالطبيعة ويخاف الله ويراعيه فى السر والعلن، فقد خصصنا جانباً (أحياناً يكون الأكبر) من وقت عملنا لتنمية هذا الهرى العنكبوتى، وتغذية ذلك الفتْى الافتراضى الذى لا يبتغى مصلحة شخصية بالضرورة، أو غاية أسرية أو حتى مصلحة عملية، بل هو هرى بغرض الهرى. صحيح أن هناك فئة من مستخدمى الإنترنت عُرفوا قبل سنوات بـ«ناشطى الإنترنت» وإليهم يُنسب فضل (أو يوجه اتهام وذلك بحسب منظور كل منا) إشعال ما جرى فى مصر فى يناير 2011، إلا أن هؤلاء مروا بأطوار عدة وتحولوا تحولات كثيرة، حتى باتوا اليوم يتأرجحون بين «أشرف من أنجبت مصر» والعكس. فمنهم من اعتقد أن النشاط العنكبوتى غاية، ومنهم من اتخذه وسيلة أكل عيش وسبوبة، ومنهم من أصيب بإحباط وضربه اكتئاب بعد ما تحولت الساحة إلى اتهامات مدوية وتراشقات عنترية بناء على معتقدات شعبوية وخيالات اجتهادية ما أنزل الله بها من سلطان. لكن المثير حقاً والمفزع طبعاً هو أن نسبة كبيرة جداً جداً ممن باتوا متصلين بالشبكة العنكبوتية اعتبروا هذه الساحة مساحة للهرى والفتى وبث السموم ونشر الطاقات لا سيما السلبية والتعبير عن مكنون نفوسهم المهمومة المضغوطة. أعداد هائلة تعتبر صفحاتها وحساباتها العنكبوتية ساحات لتفريغ شحنات الغضب والكبت والقهر، سواء كان شخصياً ناجماً عن ضغوط حياتية وأسرية أو حتى عاطفية، أو وطنياً ناتجاً عن مشكلات وطن بأكمله. وعلى الرغم من أن هذه الصفحات تظل مساحة شخصية لأصحابها، إلا أن قدراً من المسئولية لا يضر ولا يؤلم. فكم واحد منا يستيقظ صباح كل يوم على زمرة من الأصدقاء المشمأنطين طيلة الوقت رافعين راية «رايحة بينا على فين يا مصر؟!»، فى هذه الفئة كل شىء زفت، وكل حدث هباب، وكل عمل نيلة، وكل تحرك مؤامرة، وكل خطة فشنك، وكل مشروع وهم، وكل خطوة هى حتماً للوراء، وكل نسمة هواء هى مؤكد مشبعة بثانى أوكسيد الكربون، وكل إعلام هو إعلان، وكل أبيض هو أسود، وكل أحمر هو أزرق، وكل ما يبدو أنه يمين هو حتماً يسار. وفى السياق نفسه، ولكن على طرف النقيض الآخر، هناك من يبذل جهوداً وطاقات ووقتاً لبث أجواء إيجابية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو حتى عاطفية. والمثير أن كلا الطرفين عادة ما يتراشقان ويتناحران ويتبادلان الاتهامات بالجهل والخيانة والسطحية وغيرها من الاتهامات. والمقصود هنا ليس اعتراضاً على توجهات بعينها أو انتماءات دوناً عن غيرها، بقدر ما هو رصد لحالة الحياة الافتراضية التى تعدت آثارها أثير العنكبوت لتنال منا جميعاً. وحيث إننا نملك رفاهية الوقت حيث جانب كبير من يومنا لا شغلة فيه أو مشغلة، ومن ثم نملأ الفراغ ونسد الخواء بالهرى والهرى المضاد إلى أن يأذن الله أمراً. لكن الأمور بهذا الشكل قلبت الهزل جداً، وحولت التفاهة شقاء، وجعلت من أثير العنكبوت مجالاً عامراً بكل ما لا تشتهيه الأنفس من غوغائية وفوضى بغض النظر عن التوجهات السياسية والانتماءات العقائدية. والأمثلة كثيرة وأحدثها الأجواء العنكبوتية فى ضوء حادث طائرة مصر للطيران. فبعد دقائق معدودة من خبر اختفاء الطائرة من على الرادار، انبثقت كتائب «رايحة بينا على فين يا مصر؟!» تلعن الشركة الوطنية، وتصف المسئولين بأقبح الأوصاف، وتنعت مصر والمصريين بنعوت الضعف والبؤس والهوان والشؤم والغُلب، مع تأكيدات عنكبوتية وبث تصريحات شخصية بأننا نستاهل كل ما يحدث لنا لأننا عايشين فى هذا البلد البائس. فى الوقت نفسه، سارعت المجموعات المضادة إلى التأكيد على حسن وجودة أداء الشركة، وأنها من أفضل شركات العالم، وأن حوادث الطيران تقع فى جميع أنحاء العالم ومصر ليست استثناء، والتأكيد أن مصر فوق الجميع، بل بادر البعض إلى تغيير صورة البروفايل لتحمل شعار «مصر للطيران» على سبيل التضامن. وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد. فهذا الهرى والهرى المضاد يمكن تجاهلهما، أو التغاضى عنهما، لكن ما لا يمكن غض الطرف عنه هو النظريات الأمنية والاستراتيجية والإرهابية والسياسية والداعشية والعسكرية التى تفجرت من رحم الفريقين، حيث تأكيد أن صاروخاً من ليبيا أو تركيا أو إسرائيل اخترق الطائرة، ثم نفى تام لأى عمل إرهابى، وبعده إشارة إلى أن قنبلة زمنية حتماً انفجرت حال دخلوها المجال الجوى المصرى، تبتعها إشارة إلى استحالة وجود مثل هذه القنبلة، ثم تلويح بأن «داعش» ربما تكون وراء الحادث، ثم تلميح بأن «داعش» لا يمكنها الوصول إلى هذه الطائرة، وهكذا حتى تحولت الساحات العنكبوتية منصات نار مشتعلة يكاد المستخدم المتابع يستشعر سخونتها وتلسعه ألهبتها وتنفجر فى وجهه الفرقعات الناجمة عن آثارها الجانبية. الرئيس «السيسى» أشار غير مرة إلى «الانتحار القومى» وصناعة تشكيك الجميع فى الجميع، وهى صناعة رائجة ومنتعشة جداً. المثير والغريب والمقزز أن «الجميع» أول سخر من «الجميع» الثانى لأنه صدق أن هناك ما يسمى «الانتحار القومى»، فما كان من «الجميع الثانى» إلا أن اتهم «الجميع الأول» بالجهل والضحالة والعمالة.
المقصود هنا ليس اعتراضاً على توجهات بعينها أو انتماءات دوناً عن غيرها، بقدر ما هو رصد لحالة الحياة الافتراضية التى تعدت آثارها أثير العنكبوت لتنال منا جميعاً. وحيث إننا نملك رفاهية الوقت حيث جانب كبير من يومنا لا شغلة فيه أو مشغلة ومن ثم نملأ الفراغ ونسد الخواء بالهرى والهرى المضاد إلى أن يأذن الله أمراً