متى يمكننا القول إن الإنسان تغير وتعلم، بأنه تجرى عليه حوادث الأزمان فتؤثر فيه وفي تفكيره وفقًا لمجريات العصر، بأنه كأي شيء يخضع للتطور كسائر الأشياء من حوله فيزيل آثار الركود التي أحاطت بعقله؟، هل ما يتغير حولنا الآلة فقط وهي الجسم الجامد ونحن المتحركون؟ المروحة تتحول لتكييف، الكمبيوتر الكبير يتحول لتابلت، التليفون السميك يصبح أكثر نحافة وتطورًا؟، فقط هذا ما يتغير حولنا؟، وهل فقط صورتنا هي ما يتغير فينا، في الإنسان بشكل عام على مر العصور والأجيال؟، في حين تظل تصوراتنا كما هي!.
أسئلة كثيرة راودتني عند قراءتي لبعض مقالات وخواطر كتاب "العواصف" 1918 للفيلسوف العبقري لبناني الجنسية جبران خليل جبران 1883- 1931، نعم فيلسوف هكذا أراه وبالأحرى أحسه، على الرغم من تعدد مواهبه كونه في الأساس أديب وشاعر ورسام أيضًا، إلا أن الرجل استطاع فرض فلسفته الخاصة والتي لا تعتمد على المنطق والعقل بقدر ما اعتمدت على سبر أغوار الوجود والنفس الإنسانية والحياة والخيال بحثًا وترسيخًا لقيم الحب والخير والجمال وتأملًا في الذات الإلهية، ولما لا وهو الذي أوصى بكتابة هذه الجملة على قبره بعد وفاته عن ثمان وأربعين عامًا بعدما تمكن من جسده مرض السرطان، والتى تقول "أنا حى مثلكم، وأنا الآن إلى جانبكم، "أغمضوا عينكم، انظروا حولكم وستروني"، هذه الجملة التي اختزلت مسيرة حالمة لرجل حاول أن يرى جنته ومدينة أفلاطون الفاضلة التي حلم بها دومًا على الأرض، ولكن هيهات.
هذا بالتحديد ما عبر عنه جبران في مقالة باسم "العبودية" ضمن عدة مقالات بالكتاب السابق ذكره، حينما قال "وقد اتبعت الإنسان من بابل إلى باريس، ومن نينوى إلى نيويورك، ورأيت آثار قيوده مطبوعة على الرمال بجانب آثار أقدامه، وسمعت الأودية والغابات تردد صدى نواح الأجيال والقرون".
وكما يدل اسم المقالة كانت "حرية" الإنسان هي الشغل الشاغل لهذا الفيلسوف الكبير، التحرر من الرق بجميع أشكاله الرق الفكري والمعنوي وأيضًا الرق المادي، ولتوضيح فكرته رصد جبران العديد من الأمثلة، حيث رأى أن العامل ما هو إلا عبد للتاجر والتاجر ما هو إلا عبد للجندي والجندي عبد للحاكم والحاكم عبد للملك والملك عبد للكاهن والكاهن عبد للصنم، في سلسلة لا متناهية من صور العبودية كما أطلق عليها، لا تنتهي بعصر ولا تقف عند جيل.
جبران لم يبتعد عن فكرته في مقالة أخرى داخل الكتاب نفسه تحمل اسم "المخدرات والمباضع"، حينما تحدث عن "الشرقيين" بالتحديد، والذين رآهم المادة الخام لتثبيط أي محاولة للتغيير والتقدم الفكري، والذين نصبوا أنفسهم قضاة اتهموه حينها بأنه عدو للإنسانية وإنسان فوضوي، ليس هذا فحسب ولكن جماعة أخرى اتهمته أيضًا بالكفر والإلحاد، فقط لأنه غرد خارج السرب ومنح عقله وقلبه فرصه للخيال والتحليق بعيدًا عن العادات والتقاليد والأفكار البالية، ليس فقط على المستوى الاجتماعي والسياسي والديني في بعض الأحيان، ولكن أيضًا على قوالب اللغة الجامدة التي رأى أنها لا تصلح لأن تكون أداته المثلى لإيصال فكره المتفرد وإحساسه الفريد الذي اعتمد في أساسه على مشاعر غير مرئية من الصعب تجسيدها في كلمات متحجرة، "التمرد" على كل فكر جامد وعلى الشرائع البشرية كان التهمة التي افتخر بها الرجل ولم ينكرها على الإطلاق بل رأى فيها شرفًا لا ينوله إلا القليلون، فكان رده "في قلبي كره لما يقدسه الناس وحب لما يأبونه".
المقالة تعد عاصفة من العواصف التي احتواها الكتاب، فعبرت بحق عن حالة من الرفض لكل ما هو بال وقديم للفكر المتخلف للفساد، أيضًا العادات والتقاليد التي ما هي إلا محض صناعة بشرية حولوها لشيء مقدس، عن نفاق الشعراء الذين كرس البعض منهم حياته لمدح الملوك لنيل عطاياهم، فيقول "يطلب الشرقيون من الشاعر أن يحرق نفسه بخورًا أمام سلاطينهم وحكامهم وبطاركتهم، وقد تلبد فضاء الشرق بغيوم البخور المتصاعدة من جوانب العروش والمذابح والمقابر ولكنهم لا يكتفون"، عن حصار الشرقيين للعلماء والمفكرين الذين لم يمنحوا لهم فرصة التجديد فأصروا على أن يعيدوا على مسامعهم ما قاله الأقدمون، وهو ما عبر عنه قائلا "الشرقيون يعيشون في مسارح الماضي الغابر ويميلون إلى الأمور السلبية المسلية المفكهة، ويكرهون المبادئ والتعاليم الإيجابية التي تلسعهم وتنبههم من رقادهم العميق المغمور بالأحلام الهادئة".
واستطاع جبران، أن يضع يده على "الجرح" والسبب الحقيقي لهذا السبات العميق الذي يغوص فيه الشرق حسبما رأى، وهو ما أسماه "المخدرات المعنوية"، والذي استطاع من خلالها الشرق بعد أن "تناوبته العلل وتداولته الأوبئة... تعوُّد السقم وإلف الألم، وأصبح ينظر إلى أوصابه وأوجاعه كصفات طبيعية"، أي أنه تعود، تعود على الألم والمرض والعلل التي تنخر به ولم يعد يشعر بما حل به، بحالة الثبات والسُبات، وكأنه في نوم عميق أو تعاطى مخدرًا هوى به في هوة عميقة حوصر بداخلها حصارًا إراديًّا.
الأطباء المتطوعون كُثر، وصفهم جبران بـ"المتآمرين في شأنه" والذين لا شغلة لهم إلا مداواة الناس بهذه المخدرات "الوقتية" التي تطيل زمن البلاء والبلوى والعلة ولا تستأصلها من جذورها على جميع المستويات العائلية والاجتماعية والوطنية والدينية، وهو ما يمكن أن يقترب ونطلق عليه فى عام 2016 وبعد مرور 98 عامًا على كتابة هذا العمل "التثبيت"، فكلما ظهر مرض جديد مشكلة ما كارثة ما اخترعوا و"ألِّفوا" لها مخدرًا جديدًا، وذلك خوفًا من تهييج الألم الذي تحدثه الأدوية الناجعة" حسب وصفه.
ما أشبه الليلة بالبارحة.. 98 عامًا مرت وكأنها لم تمر، وكأن الزمن توقف بشخوص وأحداث وأفعال وردود أفعال ذلك العصر وتوقف بنا أيضًا فلم تحرك بنا ساكنًا، انظروا هذا المثال الذي ضربه لإيضاح فكرته.. "يتمرد قوم على حكومة جائرة... فيؤلفون جمعية إصلاحية ترمي إلى النهوض والانعتاق، فيخطبون بشجاعة ويكتبون بحماسة... ولكن لا يمر شهر أو شهران حتى نسمع بأن الحكومة قد سجنت رئيس الجمعية أو عهدت إليه بوظيفة، أما الجمعية الإصلاحية فلا نعود نسمع عنها شيئًا لأن أفرادها قد تجرعوا قليلًا من المخدرات المعهودة وعادوا إلى السكينة والاستسلام".
ولماذا نذهب بعيدًا، حادث المنيا الأخير أبرز مثال على ما نقول، فبدلًا من تطبيق القانون ومحاسبة المخطئين لجأ البعض فورًا للحل الأسهل المؤقت وهو جلسات الصلح وتطييب الخواطر، التي يمكنها أن تهدئ الأمر في لحظتها لكنها لا تلبث تعود مرة أخرى وتظل جذوره فاسدة مسوسة بلا علاج حقيقي، وهو ما فطن إليه الأنبا مكاريوس أسقف عام المنيا وأبو قرقاص، والذي ذكر فى تصريحات صحفية له أن «طريقة الملاطفة وحلو الكلام أفسدت جميع القضايا وأوجدت الفرصة للمسؤولين للهروب من المواجهة والقيام بمسؤلياتهم، وجعلت من كل كارثة مقدمة لكارثة أكبر في زمن قصير».
تعرض أيضًا لمشكلة اجتماعية وهي الصلح المؤقت بين الأزواج لمجرد استكمال "العيشة"، بعد أن تلعب "مخدرات" المجتمع ألاعيبها لعقد معاهدة سلام بين طرفين تنافرت أرواحهما، مما تكون نتيجته في النهاية زوال الطلاء وانسحاب المخدر ليصبح العلاج بعد ذلك محاولة للإفاقة في وقت متأخر.
أليس هذا ما نراه أمام أعيننا في القرن الواحد والعشرين، وهل بالفعل التاريخ له دورات متشابهة تعيد نفسها كما ذكر المؤرخ ابن خلدون، أم أن المخدرات كان سببًا في سكون وكمون هذه "الأضراس المسوسة" عملًا بمنطق "إخوانا الأطباء" الذين ذكرهم جبران، وقال عنهم "وما أكثر الأطباء الذين يداوون أضراس الإنسانية بالطلاء الجميل والمواد البراقة، وما أكثر المرضى الذين يستسلمون إلى مشيئة أولئك الأطباء المصلحين فيتوجعون ويقاسون ثم يموتون بعلتهم مخدوعين".. الله يرحمك ياجبران.