كان العام بعيداً، أيام الطفولة الأولى، وكان الصوت رخيماً، يشدو عبر جهاز التسجيل بأغنية (طيرى طيرى يا عصفورة)، وأغنية (عندى بيسى)، كانت سنى صغيرة وأذنى صغيرة، ولكنهما ميزتا جمال صوتها وأدائها، كبرت وأنا ما زلت أتابعها، وكانت تنتج هى ما يتناسب مع سنوات العمر المتتالية، كان التعلق بها سريعاً صادقاً قوياً، حينها كانت أجمل هدايا أبى هى شرائطها الحديثة، أولاً بأول.
عندما تتعلم الغرام على يد أمثالها، فقد تعلمت غراماً لن تعتزله أبداً، غرام يتشابك مع خصلات الروح، لا ينطفئ ولا يخبو ولا ينتهى.
مرت السنوات معك سريعة ست ماجدة، ومضى الغرام والمحبة مع أغانيك متعة كبرى، كيف لك هذا، كيف اجتمع بصوتك جميع مفردات التميز والألق والقوة، كيف جمعتِ بين رخامة الصوت وقوته، بين عذوبته وعنف صداه، كيف أخذت بأحداقنا مع تلويحات يديك، كمن يرشدنا إلى طريق المحبة والرقى والحضارة!!
يا ابنة حليم الرومى، من صنع لنا العبقرية الأولى فيروز، ورفض غناءك بالبداية، موصياً إياك بتقديم العلم قبل الفن والاهتمام بالدراسة قبل الحفلات، وحب الفكر قبل حب الظهور، فكان ظهورك نعمة لنا نحن، وعلماً وفكراً وسمواً.
كيف تصنعين بنا ما تصنعين!! كيف تجمعين وتنثرين!! كيف للآفاق بنا تنهضين، غناؤك صلاة وصلاتك محبة، أنت دائمة الصلاة، والعبادة، فالحب عبادة والعبادة حب، وقد جمعت النعمتين فى شخصك المتدين، فغدوت مطربة بملامح ملاك وبأخلاق قديسين.
نتعجب منك كثيراً، كيف أنت الخجولة ذات الصوت الخفيض، عندما تقفين على المسرح تتلبسك روح أخرى، روح جنية المحبة، فتكاد قدماك لا تلمسان الأرض، تطيرين، بعيداً تحلقين، فراشة قد أطلقت للتو، تنثر الضوء والألوان والمرح، صوتك الرقيق الهادئ يتحول لزلزال يكاد يرقص المسارح والقاعات والمقاعد!!!
حللت ببلادنا قريباً، كما كان عهدنا بك وعهدك بنا، وقفت تحت الأهرامات كأنك قطعة منها، غازلتِ مصر بكلمات عذبة، فأحبتك مصر وأبناؤها، أكثر فأكثر، وقد غنيت لكثير من بلاد العرب، فكان صوتك بمثابة نشيد وطنى ثانٍ، تفخر بك كل العروبة وتزدان البلدان بصوتك الهادر محبة والرنان يمدحها ويغنيها.
الكثيرون غنوا وكانت لهم أصوات رائعة، ولكن القليل كان يعيش الغناء، يشعر الكلمات ويشعرنا بها، كأننا بحلم جميل، تؤدين الأغنيات كمن يعيش الأحداث، فأنت بطلة جميع الأحداث، والقصص، عندما تغنين أغانى لغيرك تتفوقين، وكأنهم ما غنوها يوماً!!! فأى طقوس السحر تمارسين!!
كأن الفن وأهله فى معظم الأحوال محط تقوّلٍ وأقوال، فكنت ومثلك قلة جعلتم للفن جلالاً وإجلالاً، يا جميلة المعانى والخلق والتصرفات، تحار بك الكلمات ولا توفيك قدرك أى عبارات، وأنت سيدة الألحان والكلمة والشعور، تغنين الفصحى بسلاسة من اخترعها، وتجعلين من العامية فصحى ببهاء ووقار أدائك.
دمتِ للفن مجيدة ماجدة، ودمتِ لجمهورك سيدة الطرب الراقية، المحترمة المثقفة العميقة، المحبة للخير والمحبة والقيم والأخلاق والإيمان، يا ماجدة الخير دمتِ بكل الخير.