حقاً لقد استوقفنى موقف جانب من الجمهور المصرى ذهب مهللاً لحكم محكمة القضاء الإدارى الذى قضى ببطلان توقيع رئيس الحكومة المصرية على المعاهدة المصرية السعودية بشأن جزيرتى تيران وصنافير، مشيداً بوطنية قضائنا الشامخ التى لا نشك مطلقاً فيها.. إلا أن المستغرب من الأمر أن جانباً من هذا الجمهور ذهب لانتقاد هذا القضاء العادل عندما صدر بالأمس القريب حكم محكمة جنايات القاهرة الذى انتهى بإدانة الدكتور محمد مرسى رئيس مصر الأسبق وآخرين فى قضيتى تخابر مع دولة أجنبية.. وبهذا بدا أمر اتفاقنا أو اعتراضنا على أحكام القضاء تحكمه اتجاهات ونوازع شخصية غير موضوعية!
لذا رأيت أن أشارك فى التعليق على حكم محكمة القضاء الإدارى الصادر فى 21 يونيو الحالى، الذى قضى ببطلان التوقيع على الاتفاقية الخاصة بتعيين الحدود البحرية بيننا والمملكة العربية السعودية فى أبريل 2016، وما يرتبه هذا البطلان من آثار، وبداية فإنه بمراجعة حيثيات الحكم المشار إليه يتضح لنا أن الدفع الأساسى الذى استندت إليه هيئة قضايا الدولة ممثلة للحكومة المصرية يتمركز حول عدم اختصاص المحكمة والقضاء بصفة عامة ولائياً بنظر الدعويين، استناداً لكون إبرام الاتفاقية محل الدعويين يُعد عملاً من أعمال السيادة؛ وفقاً لما ذهبت إليه المادة 17 من قانون السلطة القضائية رقم 46 لسنة 1972 والتى تقرر أنه «ليس للمحاكم أن تنظر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة فى أعمال السيادة..»، وهكذا ذهبت المادة 11 من قانون مجلس الدولة المصرى مقررة أنه «لا تختص محاكم مجلس الدولة بالنظر فى الطلبات المتعلقة بأعمال السيادة».
ورغم هذا أنكرت المحكمة هذا الدفع على سند من القول بأن أعمال السيادة ليست نظرية جامدة وإنما تتسم بالمرونة وتتناسب عكسياً مع الحرية والديمقراطية فيتسع نطاقها فى النظم الديكتاتورية ويضيق كلما ارتقت الدولة فى مدارج الديمقراطية، وذلك وفقاً لما استقرت عليه أحكام المحكمة الإدارية العليا.. ويضاف لهذا حظر الدستور الحالى تحصين أى عمل أو قرار إدارى من رقابة القضاء (المادة 97 دستورى) ومن ثم فالأصل هو اختصاص القضاء بنظر جميع الطعون التى توجه ضد أى عمل أو قرار يصدر عن جهة الإدارة، حيث لا يخرج عن رقابته إلا ما يصدق عليه من هذه الأعمال أو القرارات أنه عمل من أعمال السيادة.
ونظراً لأن المشرع لم يحدد أعمال السيادة، فقد استقر قضاء المحكمة الإدارية العليا على أن أعمال السيادة هى تلك التى تباشرها الحكومة باعتبارها سلطة حكم فى نطاق وظيفتها السياسية؛ وأن عدم امتداد الرقابة القضائية إليها ليس مرده أن هذه الأعمال فوق الدستور والقانون؛ وإنما لكون معايير وضوابط الفصل فى مشروعيتها لا تتهيأ مقوماتها للقضاء؛ إضافة لعدم ملاءمة تداول هذه المسائل علناً فى ساحات المحاكم.. وفى ضوء ما سبق نرى أن المعاهدة الدولية بين مصر والسعودية بشأن الجزيرتين تعد عملاً من أعمال السيادة؛ وذلك للأسباب الآتية:
1- البت فى أمر رد الجزيرتين ليس شأناً قانونياً محضاً.. بل له أبعاده السياسية والاقتصادية والتاريخية.. ويرتبط أيضاً بالأمن القومى المصرى.. وهذا الشأن أوكله الدستور لرئيس الدولة باعتباره ممثلاً للسلطة التنفيذية ومجلس النواب تارة؛ وفى حالات أخرى محددة للرئيس مع حتمية إجراء استفتاء شعبى على المعاهدة (وفقاً لأحكام المادة 151 من الدستور) ومع كامل تقديرنا لهيئة محكمة القضاء الإدارى الموقرة التى أصدرت الحكم فإن قبولها الاختصاص نراه معيباً بالقصور فى تطبيق صحيح القانون؛ وذلك وفقاً لسوابق قضائية عديدة استقر عليها قضاء المحكمة الإدارية العليا؛ بل ونرى أن فى نهجها هذا ما يؤدى لصدام بين السلطات.
2- المادة 151 دستورى أناطت أمر إبرام المعاهدات للسلطتين التنفيذية والتشريعية؛ حيث يبرم الرئيس أو من يفوضه المعاهدات ويصدق عليها بعد موافقة مجلس النواب وفى حالات ثلاث محددة يلزم إجراء استفتاء شعبى؛ وأن مهمة السلطة القضائية فى هذه الحالات لا تعدو عن كونها مراقباً لصحة إعمال الجوانب الإجرائية للأمر.. ولعل ما يؤكد هذا أنه فى ظل العمل بالدستور المصرى الصادر عام 1971 أخضعت المحكمة الدستورية العليا المعاهدات التى أصبحت لها قوة القوانين لرقابتها الدستورية؛ مقررة أن المحكمة تراقب توافر المتطلبات الشكلية فقط ليكون لها قوة القانون؛ ورفضت الاحتجاج بفكرة أعمال السيادة لمنعها من نظر الدعوى الدستورية المتعلقة بالاتفاقيات الدولية.
3- تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات يتطلب اعتبار اختصاص السلطتين التنفيذية والتشريعية بإبرام المعاهدات الدولية عملاً من أعمال السيادة.. والقول بغير هذا يعد إقحاماً للسلطة القضائية فى اختصاص حدده الدستور تحديداً واضحاً لا يحتمل التأويل.. بما مؤداه عدم صواب الادعاء بقانونية الرقابة القضائية الموضوعية لإبرام المعاهدات الدولية.
هذا ومع تأييدنا للدفع الذى تمسكت به هيئة قضايا الدولة الموقرة؛ باعتبار المعاهدات الدولية عملاً من أعمال السيادة؛ وبهذا فهى تخرج عن نطاق الاختصاص الموضوعى للقضاء المصرى.. إلا أننا الآن أمام معطيات موقف قانونى يجب استئناف التعامل معه وفقاً لإجراءات من الواجب اتباعها؛ حيث بات من المؤكد أن هيئة قضايا الدولة سوف تطعن على الحكم المشار إليه أمام المحكمة الإدارية العليا، ومن المنتظر أن تتمسك فى طعنها بدفعها الذى أبدته أمام محكمة القضاء الإدارى، والمتمثل فى اعتبار مسألة إبرام المعاهدات أمراً يدخل فى نطاق أعمال السيادة.. ولعلها ستطلب إحالة أمر تفسير نص المادة 17 من قانون السلطة القضائية؛ والمادة 11 من قانون مجلس الدولة للمحكمة الدستورية العليا لإصدار حكمها بتفسيرهما على ضوء نصوص الدستور المصرى الحالى (2014) وبخاصة أحكام نص المادة 151 منه؛ وصولاً لإجابة قاطعة بشأن دخول المعاهدات الدولية وفقاً لهذين النصين فى نطاق أعمال السيادة من عدمه.. وذلك إعمالاً لاختصاص المحكمة الدستورية الذى أشارت إليه المادة 26 من قانونها؛ والتى نصت على أنه «تتولى المحكمة الدستورية العليا تفسير نصوص القوانين الصادرة من السلطة التشريعية والقرارات بقوانين الصادرة من رئيس الجمهورية وفقاً لأحكام الدستور، وذلك إذا أثارت خلافاً فى التطبيق وكان لها من الأهميـة ما يقتضى تـوحيد تفسـيرها»، لذا فعلى هيئة قضايا الدولة، وبعد الطعن أمام المحكمة الإدارية العليا فى حكم محكمة القضاء الإدارى المشار إليه، أن تطلب من المحكمة إحالة أمر تفسير ما يتعلق بأعمال السيادة وفقاً لأحكام الدستور المصرى الحالى (2014) للمحكمة الدستورية العليا حتى يصدر حكم المحكمة على ضوئه.
ولعل تقييم الموقف القانونى لهذا الأمر يجب أن يُراعى فيه قضاؤنا الشامخ مآل الوضع القانونى الذى سنضطر إليه حال تأييد المحكمة الإدارية العليا لحكم محكمة القضاء الإدارى.. فمن المؤكد أن المملكة العربية السعودية ستطلب من مصر الالتجاء للتحكيم الدولى فى هذه القضية.. والسؤال الذى يطرح نفسه على بساط البحث ويجب الانتباه لإجابته هو: هل فرصة مصر فى كسب القضية أمام التحكيم الدولى مضمونة على ضوء معطيات الموقف الراهن؟ وإننا لعلى يقين من أن قضاء المحكمة الإدارية العليا سيتسم بنظرة موضوعية شاملة للموقف واضعاً الاعتبارات السياسية للقضية ضمن حساباته؛ مبصراً لما سيئول إليه الأمر المترتب على قضائه؛ فالبت فى المسألة لا يتعلق بجوانب قانونية مجردة.. وذلك حتى لا نضر بمتطلبات أمننا القومى.
وجدير بالذكر أن هيئة قضايا الدولة نظراً لطبيعة دفعها السابق بعدم اختصاص المحكمة ولائياً، الذى ارتكزت عليه أمام محكمة القضاء الإدارى.. فإنها بهذا لم تقدم الأسانيد القانونية الدالة على أن الجزيرتين سعوديتان؛ وإلا أصبح دفعها بعدم الاختصاص غير ذى جدوى لمناقشتها موضوع الدعوى.. هذا وعلى ضوء مسار الدعوى أمام المحكمة الإدارية العليا فإن إبداء الأسانيد القانونية المؤيدة لتبعية الجزيرتين للسعودية يجب أن يجد سبيلاً أمام هذه المحكمة حال اعتبار أمر الاتفاقيات الدولية يخرج عن نطاق أعمال السيادة.. ونعيد التأكيد على أن أمر حسمه يجب أن يكون بحكم للمحكمة الدستورية العليا.
هذا ونظراً لكون البت فى أمر أحقية مصر أم السعودية بالجزيرتين المشار إليهما أثار شكوكاً لدى شريحة كبيرة من الجمهور المصرى، خاصة بعد صدور حكم محكمة القضاء الإدارى المشار إليه، فنرى أن التعامل مع الأمر فى شقه السياسى يتطلب بالضرورة طمأنة الشعب المصرى بما هو صواب فى هذا الأمر؛ ونقترح لتحقق هذا الهدف الآن إصدار مؤسسة الرئاسة قراراً جمهورياً بتشكيل لجنة فنية متخصصة تعمل وفق ضوابط قانونية محددة؛ تشكل من رئيس وعشرة أعضاء على الأكثر، ويراعى أن يتسم انتقاء غالبية أعضائها ممن يتحلون بموقف محايد فى شأن موضوع الدراسة، كما يراعى فى تشكيلها أيضاً ضمها لعلماء وخبراء ثقات لا تشوب ذممهم ومهنيتهم أية شائبة، على أن يكون أغلبهم من غير مسئولى الدولة الحاليين، ويناط باللجنة دراسة الأمر من كافة زواياه، وخلال فترة زمنية محددة تقدم اللجنة تقريرها وتعلنه للشعب المصرى.. على أن يكون إعلان نتائج أعمال هذه اللجنة من معطيات الموقف القانونى أمام المحكمة الإدارية العليا.
هذا وإن كان لمقالنا هذا كلمة ختامية أخيرة.. فلنوجزها فى أمرين:
الأول: إنه لمن الخطأ الجسيم طرح المعاهدة المصرية السعودية الآن على مجلس النواب للتصويت عليها.. لتعارض هذا الأمر مع الاحترام الواجب لأحكام القضاء؛ فطالما تأخرت الحكومة فى عرض الأمر على مجلس النواب حتى صدر حكم محكمة القضاء الإدارى المشار إليه! فلا ينبغى أن تتصارع سلطات الدولة فى التعامل مع هذا الملف.. فإذا انتهت اللجنة المشار إليها لنتيجة مفادها أحقية مصر فى الجزيرتين فعلى الحكومة العدول عن الاتفاقية المشار إليها فوراً، ولنتفق مع السعودية على التحكيم الدولى كمسار قضائى، وإذا انتهت اللجنة الفنية لأحقية السعودية فيهما فنرى أن يذكر فى مذكرة الدفاع المقدمة من هيئة قضايا الدولة للمحكمة الإدارية العليا أن الحكومة فى سبيلها لطرح المعاهدة على الاستفتاء الشعبى إعمالاً لحكم المادة (151) من الدستور، وذلك لتعلقها بأمر مرتبط بسيادة مصرية واقعية على الجزيرتين؛ حتى لو كانت هذه السيادة بناء على اتفاق مصرى سعودى سابق.. واضعين فى الاعتبار أنه من حيث المبدأ فلا ارتباط حتمى بين السيادة والملكية.. وأنه فى حالة تأييد المحكمة الإدارية العليا لحكم القضاء الإدارى المشار إليه فإن الحكومة المصرية ستوافق الجانب السعودى حال طلبه اللجوء للتحكيم الدولى.
الثانى: يجب على من يؤيد أحقية مصر فى الجزيرتين المشار إليهما ألا ينزلقوا سواء عن عمد أم خطأ فى تعصبهم لرأيهم للإساءة للعلاقات المصرية السعودية التى تعد ركيزة من ركائز الأمن القومى العربى.. فأعداء الأمة يسعون بشتى السبل للوقيعة بين البلدين، ونحن على يقين من تفهم القيادات السعودية جيداً لأبعاد هذا الشأن.. ولعل سنام الاتفاق المصرى السعودى فى هذا الأمر أنهما استثمرا استثماراً مربحاً فى الجزيرتين؛ من خلال الاتفاق على بناء الجسر البرى المزمع إنشاؤه، الذى سيربط بين البلدين بما يعزز من نشوء فرص استثمارية غير مسبوقة يتحقق على ضوئها الازدهار للمنطقة العربية ككل.