(١) التجارة كما يقولون شطارة، لكنها فى الوقت ذاته فن وعلم وخبرة.. وقد خاطب المولى تعالى البشر باللغة التى يفهمونها، وهى لغة المكسب والخسارة، فقال: «هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم»؟ (الصف: ١٠)، وقال: «إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً فى التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم» (التوبة: ١١١).. وقال فى وصف المؤمنين: «رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله» (النور: ٣٧).. وقد جاء فى الحديث أن: «تسعة أعشار الرزق فى التجارة»، أو كما قال.. ولأن التجارة لها سلطانها على الناس، فقد قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ■ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون ■ وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين» (الجمعة: ٩-١١)..
(٢) كان خيرت الشاطر من هؤلاء الموهوبين فى التجارة.. يعرف جيداً احتياجات السوق، ومداخله ومخارجه، وما السلع التى يمكن أن تجد رواجاً فى هذه السوق أو ذاك، ومن من التجار سوف يشاركون، وفى أى سلعة، ومتى.. إلخ؟ ولا شك أنه وجد نفسه فى التجارة، فترك وظيفته، أو بمعنى أدق هى التى تركته، وتفرغ للتجارة والدعوة.. ولذلك، عندما أعلنت قيادة جماعة الإخوان عن ترشيحها للشاطر لانتخابات الرئاسة فى أبريل ٢٠١٢، سألنى الأستاذ عمرو أديب، المذيع بقناة أوروبت، فى إحدى مداخلات برنامج «القاهرة اليوم»، عن المهنة أو العمل الذى يتعيش منه المهندس خيرت الشاطر، فقلت: إنه تاجر.. وقد تصور أحد أعضاء مكتب الإرشاد أنى أهزأ بالرجل، رغم أنى كنت صادقاً ولم أقصد الإساءة مطلقاً.. نعلم أن للمال سطوته وتأثيره، وكما كان إحدى الوسائل المهمة لإزالة الكثير من العقبات داخل السجون، إلا أنه كان أيضاً يمثل إحدى المشكلات.. فأنت لا تستطيع إن سرت فى هذا الطريق أن ترضى الجميع.. فما أن يعلم بعض الضباط أن خيرت الشاطر موجود بالسجن، حتى تبدأ الطلبات والمساومات.. وقد كان معظم الطلبات مقدوراً عليه، لكنه كان فى بعض الأحيان يتجاوز الحدود المعقولة(!).. لا أنسى يوماً وكنا فى سجن ملحق مزرعة طرة، أن جاءنى «خيرت» وهو فى ضيق وحيرة، لا يدرى ماذا يفعل.. سألته: ماذا بك؟ أجاب قائلاً: تخيل.. لقد طلب أحدهم منى أن أشترى له سيارة؟ قلت: كأنك لم تسمع شيئاً.
(٣) من المؤكد أن انشغال خيرت الشاطر بالتجارة -ولو جزئياً- لم يكن فى صالح تولى منصب نائب المرشد أو حتى عضوية مكتب الإرشاد.. أتذكر جيداً عندما كان المستشار المأمون الهضيبى، المرشد العام للإخوان، يأخذ رأيى فيمن يصلح أن يكون نائباً له، أن عرضت عليه بعض الأسماء وكان من ضمنها خيرت الشاطر، وإذا به يقول لى: وهل يترك الرجل تجارته ويتفرغ لهذا الموقع؟ والمقصد الذى عناه «الهضيبى» هو أنه ليس من المناسب الجمع بين التجارة ومنصب نائب المرشد على أساس ما يسببه ذلك من آثار سلبية على كلا الجانبين.. تماماً كالذى يحدث فى الجمع بين السلطة والثروة.. لقد رأينا فى فترات مختلفة من التاريخ وداخل الكثير من الجماعات والتشكيلات والأحزاب، بل والحكومات كيف يلعب رجال المال والأعمال أدواراً خطيرة فى توجهات هذه أو تلك.. ولعلنا نتذكر جيداً كيف أن الانتخابات التى أعد لها ورتب لتزويرها بشكل فاضح أحد رجال الأعمال بالحزب الوطنى، كانت أحد الأسباب الرئيسية لثورة ٢٥ يناير.. لذا، لم يكن من المنطقى أن يطلب من «خيرت» أن يترك تجارته من أجل التفرغ لمنصب نائب المرشد أو حتى عضوية مكتب الإرشاد، لكن كان المنطقى هو ألا يتولى منصباً قيادياً داخل الجماعة.. هذا هو الوضع الأمثل والأوفق له وللجماعة.. صحيح أن خيرت لم يكن يبخل بمال على الجماعة، خاصة فى الفترات التى كانت تواكب خوضها للانتخابات البرلمانية، أو الفترات التى كانت تتعرض فيها لمحن، وما أكثرها.. لكن، من المؤكد أنه كان لهذا الإنفاق أثره على مكانة الرجل ونظرة الآخرين له داخل الجماعة.. إذ مما لا شك فيه أن «الشاطر» استغل -بشكل ما أو آخر- موقعه وماله فى كثير من الأمور.. مثلاً، قيامه بنقل بعض الإخوان من محافظاتهم إلى القاهرة، مع توفير السكن المناسب لهم، وتوظيفهم فى أماكن معينة داخل التنظيم.. أو قيامه بمنح مبالغ من المال لبعض الإخوان لإنشاء مشروعات خاصة.. أو تشغيل بعض الإخوان فى الشركات التى يمتلكها.. ومن البديهى والطبيعى أن يصير ولاء هؤلاء بالدرجة الأولى لخيرت الشاطر.. وقد ظهرت آثار ذلك فى مواقف عدة.
(٤) برغم الخصال الجيدة للرجل، فإن حظه من العاطفة كان قليلاً.. كان كما قال عن نفسه إنه عقلانى، وإن العواطف ليس لها مكان فى حياته.. صحيح كان لذلك أثره فى الثبات الانفعالى لديه حيال المواقف المختلفة، لكن اتضح لى أن هذا الثبات هو فى الحقيقة ثبات ظاهرى، وأن الرجل كان عادة يغلى من الداخل، الأمر الذى كان ينعكس على ارتفاع مستوى الضغط عنده بشكل كبير فى مواقف بعينها.. كان الملاحظ أن إقبال خيرت على القرآن ضعيفاً، رغم ذاكرته الحافظة والقوية، هذا فى الوقت الذى كان فيه الجميع مقبلين على القرآن، تلاوة وحفظاً(!) ورغم «عقلانيته» فإنه كان محباً للزهور بكل أنواعها وأشكالها وألوانها.. وكان حريصاً على استحضار بذورها لزراعتها فى المساحات المتاحة داخل سجن ملحق مزرعة طرة.. وقد قام الأخوان: محمد وهدان، وأمين سعد (رحمه الله) بدور كبير فى زراعة الزهور، وقد ساعد فى ذلك كاتب هذه السطور.. حتى إنه بعد ترحيلنا نحن الأربعة (محمد حبيب - محمود عزت - خيرت الشاطر - عبدالمنعم أبوالفتوح) إلى التأديب السكنى بسجن مزرعة طرة، فى الشهرين الأخيرين قبل الإفراج عنا، لم نتوقف عن مباشرة هذه الهواية الرائعة.