64 عاما على "فناء الجسد.. وبقاء الأفكار"
«أستطيع أن أجهر، صراحة، بأن المسلم لن يتم إسلامه إلا إذا كان سياسيا، بعيد النظر فى شئون أمته، مهتما بها، غيورا عليها».. من كلمات حسن البنا، الذى قال لأتباعه: «إن كتيبة الله ستسير غير عابئة بقلة أو كثرة». وعلى الرغم من اغتياله عام 1949 فإن أفكاره وسيرته لم تزل موضع تطبيق من جماعته، بالموافقة حينا، والمخالفة أحيانا.
«هو بلا شك شخصية كاريزمية وزعامية، استطاع بفكره وقيادته أن ينشئ تنظيما ظل طوال هذه السنوات حتى وصل إلى السلطة».. جمال أسعد، السياسى القبطى، مشيراً إلى أن أحدا لا يستطيع أن يقلل من قيمة البنا، «كانت توجهاته الفكرية فى إطار الدعوة أكثر منها فى إطار السياسة، لكن من بعد زوال الخلافة العثمانية عام 1924، استطاع أن يخاطب العواطف الدينية لدى المسلمين، على أساس بعث الخلافة، لكنه اتخذ طريقا لا تزال جماعته تسير فيه حتى الآن وتتبع أسلوبه الشهير (الغاية تبرر الوسيلة) أو ما يسمى (التقية)».
يرى «أسعد» أن «البنا» أسّس لتنظيم لا يسعى إلا إلى مصلحته الخاصة، تحت شعار مصلحة الإسلام، وأن هذا سبب الخلط بين مصلحة الجماعة والدين كشىء أكبر من الجماعات، ويقول: «البنا لم يستطع الوصول إلى عضوية البرلمان؛ لأنه كان منذ بداياته مع الملكين فؤاد وفاروق، لم يحدد موقفا سياسيا واضحا، حتى تم اغتياله»، ويرى «أسعد» أن جماعة الإخوان اتخذت موقعا فى السياسة أكبر من الدعوة، وأنه لم يعد من الممكن أن يدرك المراقب ما إذا كانت أفكار البنا هى التى شكلت الجماعة، أم أن أفكاره كلها أصبحت فى إطار المبررات من أجل الوصول إلى أهداف لا علاقة لها بأهداف الرجل.
ويؤكد «أسعد» أن الممارسات الحالية من بعد وصول جماعة الإخوان إلى الحكم تجعل البعض يجزم بأن أفكار «البنا» منذ البداية لا علاقة لها بالإسلام، بقدر علاقتها برغبة الجماعة فى وصول جماعة سياسية، رفعت شعار الدين، إلى السلطة، والدليل أنه من بعد وصولهم إلى سدة الحكم لا نعرف هويتهم الدينية فى إطار العمل الدينى، ولا حتى هويتهم السياسية فى إطار العمل السياسى: «هم يعتمدون على التشكيل التنظيمى الذى يعتمد على السمع والطاعة، ما يفقد المرء إرادته، وليس أدل على ذلك من عبارة البنا الشهيرة (عضو الجماعة مع قائده كالميت بين يدى المغسل)».
«رجل أدى ما عليه، أنشأ جماعة اسمها (الإخوان المسلمون)، ودعا إلى الله، عز وجل، وأسأل الله أن يكون هذا فى ميزان حسناته، لقد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وأبناء صالحون يدعون له، وأظن أن أبناء جماعة الإخوان كلهم أبناؤه». يثنى جمال صابر، رئيس حزب «الأنصار» منسق حملة «لازم حازم» على شخصية البنا، مشيراً إلى أن الاختلاف بين أفكار البنا وسلوك الجماعة، حاليا، أمر طبيعى: «الأحزاب تتطور، والإخوان بالتأكيد عدلوا من أنفسهم، لا هذا يقبح الإمام، ولا يقبحهم». فيما لا يرى الدكتور جابر عصفور، وزير الثقافة الأسبق، أن شخصية البنا إيجابية للغاية؛ حيث يصفها بأنها «شخصية عملية لا تخلو من الانتهازية السياسية التى جعلته يتعامل مع كل الأطراف ليحقق دعوته؛ لهذا تعامل مع الإنجليز وطلب معاونتهم فى إنشاء الجماعة، حين كان مقرها فى السويس، وظلت علاقاته قائمة بالإنجليز فى مصر، وهناك كتاب للمؤلف البريطانى كيرتس يوضح العلاقات بين الإخوان والبريطانيين، ويكشف تفاصيل هذه الجوانب الغامضة.
ويضيف «عصفور»: كان يتحالف دوما مع حكومات الأقليات، خاصة الملك المستبد، وهذا تكرر فى عهد كل من الملكين فؤاد وفاروق، كان دائما ما ينتهز الفرصة ويتقرب ممن يقدم العون، يتحالف معهم حتى لو كانوا هم أصلا مكروهين من الشعب، وهذا الجانب العملى الذى لا يخلو من الانتهازية ظل موروثا فى جماعة الإخوان.
لا ينكر «عصفور» بعض الصفات الأساسية فى البنا، قائلا: «بالتأكيد هو زعيم سياسى وذكى، يتمتع بصفات قيادية لا نستطيع أن ننكرها، وإلا لما استطاع جمع كل هذا العدد من الناس وأن يكون له بصمة بالسلب أو بالإيجاب فى التاريخ المصرى الحديث».
للدكتور ناجح إبراهيم، القيادى بالجماعة الإسلامية، رأى آخر فى البنا؛ إذ يقول: «كان التكوين الأولى للشيخ حسن البنا صوفيا وروحيا، ما أعطاه ميزة كبيرة جدا، وهى: الاهتمام بالروحانيات وتنمية الأخلاق والقيم وما إلى ذلك، بعد ذلك وجد أن الطريقة الصوفية لا تلبى احتياجات الأمة كافة، وإنما الاحتياجات الروحية فقط، وأن الخلافة الإسلامية سقطت، وتجب إعادتها، ونظر نظرة شمولية، فرأى أن الحضارات من حوله تقوم، البريطانية فى عزها، والأمريكية فى بدايتها، بينما حضارة الإسلام فى أفول واندثار، فأخذ على عاتقه إقامة دولة إسلامية لكن من البداية تقوم على الشريعة وتبدأ بالفرد ثم الأسرة ثم المجتمع ثم الدولة، من القاع وليس من القمة».
يرى «ناجح» أن فكر «البنا» إصلاحى، وليس جذريا، يبدأ بالتدرج، حسب سنة النبى، صلى الله عليه وسلم، لا يريد هدم الكون ثم إعادة بنائه، وإنما يحذف لبنة فاسدة ويضع أخرى صالحة، وقد جمع فى دعوته بين العملية والروحية، بين مميزات الصوفية والتجدد، النابع من أفكار محمد عبده والأفغانى، وقد أكمل «البنا» بالفعل رسالة محمد عبده، الذى تأثر به ولكن بطريقة أخرى عبر شكل مؤسساتى، هو مؤسسة الإخوان، التى اختار لها أن تكون داخل المجتمع، لا فوقه، وذلك على عكس أفكار سيد قطب الذى رأى أنها تكون فوق المجتمع أو جواره.
إعجاب «ناجح» بـ«البنا» كبير، ولا يخلو من نقد وملاحظات، يقول: «البنا» كان يذهب إلى المقاهى، وكان يقابل العصاة والعلمانيين والشيوعيين واليساريين وغيرهم، لم يجعل نفسه وجماعته فوق أحد، وقد حقق الكثير بالتدرج والتحمل، لكن خطأه الأكبر كان فى تكوين النظام السرى، الذى كونه لحماية الدعوة، لكن هذا النظام كان سببا رئيسيا فى مقتل الدعوة وإجهاضها، والسبب الرئيسى فى مقتل الشيخ حسن البنا نفسه، فبعد قتل رجل الدولة «النقراشى»، ردت الدولة بقتل رأس الدعوة حسن البنا.
ويتابع «إبراهيم»: اكتشفت الحركات الإسلامية أن الأنظمة العسكرية والسرية تجر الدعوة للخلف، وتشحنهم إلى السجون حين تهان كرامتهم، ولا تحميهم الدولة، وقال «البنا» نفسه فى أواخر حياته: «لو استقبلت من أمرى ما استدبرت، لاكتفيت بالدعوة والتربية»، ومثل هذا تعبير دقيق للغاية، عقب وفاة «البنا»، وبمرور الأيام حتى وصلت جماعته إلى السلطة، تغير الكثير، ولم تعد تعاليم الإمام هى المنار الذى تسير على هداه الجماعة وغيرها من الجماعات، مضيفا: «كان البنا متواضع النفس، وكان أهم ما يميزه أنه كان يقدم الدعوة إلى الله على ما سواها، وكان يحب هداية الخلق إلى الحق سبحانه وتعالى، وكان يتلطف مع الجميع، حتى إنه استطاع كسب ود الدكتور طه حسين، وجلس معه وأثناه عن بعض أفكاره، بالود لا بالسب، والشتائم». ومضى قائلا: الحركة الإسلامية معظمها الآن ينصب اهتمامه الأكبر بالجانب السياسى على حساب الجانبين الدعوى والتربوى، والآن يمكن أن أقول إن الحركة الإسلامية تربعت على عرش السلطة، لكنها نزلت عن عرش القلوب، قل رصيدها تدريجيا فى الشارع المصرى؛ لأنهم حينما وصلوا إلى السلطة استعلوا على الناس، فنفروا منهم، الشىء الثالث أن الجماعات الإسلامية لم تنتقل بعدُ من مرحلة الجماعة إلى مرحلة الدولة أو حتى مرحلة الحضارة، فى حين أن «البنا» كان واعيا بفكرة الحضارة، وتلك الفكرة تجعل هناك تسامحا مع الآخرين والمخالفين، وهذا الوعى لم ينتقل بعد إلى الحركة الإسلامية.
أخبار متعلقة:
حسن البنا الحاضر الغائب
الجماعة "التائهة" بين الدعوة.. والسلطة
ميراث "البنا" فى المحمودية: قرية انتخبت "شفيق" ومنزل غارق فى القمامة.. وسيرة لايعلمها أحد
من قال إنهم "أحفاد البنا" فقد أفتى