ليس هناك ما هو أسوأ من اتخاذ قرارات متعجلة فى لحظة خطيرة بكل المقاييس، وليس هناك ما هو أسهل ولا أتفه من أن تجلس أمام شاشة كمبيوتر أو موبايل وتشرع فى إصدار الأحكام حول حادث رهيب مثل حادث تفجير الكنيسة البطرسية بالعباسية صباح أمس.. والأهم من ذلك أنه لا توجد وصفة سريعة وناجزة للإجهاز على أى أُمة أو دولة وتخريبها ودفعها إلى الهاوية، غير إشاعة مناخ عام من اليأس والإحباط وقلة الحيلة فى مواجهة ظاهرة إرهابية.
ما حدث صباح أمس الأحد، وما حدث قبله صباح يوم الجمعة الماضى أمام مسجد السلام بالهرم، ليس جديداً علينا، ومن يتصور أنه لن يتكرر هنا أو هناك وفى أى مكان على أرض الوطن، من الإسكندرية إلى أسوان، ومن سيناء إلى مطروح، هو إنسان فى حاجة شديدة إلى أن يتسلح بقدر من المعرفة حول طبيعة الإرهاب، وصعوبة مواجهته، والجهات التى تديره وتموله، واستحالة القضاء عليه فى ضربة واحدة قاضية.. ولو كان هناك جهاز أمنى واحد، أو جيش نظامى واحد، بإمكانه أن يقضى فى شهور على ظاهرة العمليات الإرهابية، لكانت الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وألمانيا وبلجيكا وبريطانيا، استراحت مرة واحدة من مثل هذه العمليات، لأنها تملك أعتى ما وصلت إليه الإنسانية من تقدم استخباراتى وأمنى وتقنى فى هذا المجال، ومع ذلك تعرضت هذه الدول لحوادث مفجعة راح ضحيتها آلاف ومئات وعشرات من المواطنين الأبرياء.
إن أخطر ما حدث صباح أمس، بعد هذه الفاجعة الكارثية التى أودت بحياة العشرات من المصريين العابدين فى مكان عبادتهم، هو هذه التعليقات السريعة الحمقاء التى تواترت طيلة يوم أمس تندد بقيادات وزارة الداخلية وتطالب بإقالتهم ومحاكمتهم بتهمة التقصير والإهمال. وقد لاحظت أن معظم هذه التعليقات جاءت من بعض من نحسبهم من «النخبة» التى نفترض عادة أن المنتسبين إليها هم الأكثر وعياً والأقل اندفاعاً فى التحليلات وإصدار الأحكام فى لحظات الخطر. والمخيف دائماً فى هذه الحماقات التى تندلع فى قلب الفجائع، هو أنها تحرض آخرين على الاندفاع فى الاتجاه العشوائى ذاته، فإذا بأكبر منصة إعلامية كونية على صفحات التواصل الاجتماعى تفقد الاتجاه الصحيح للتعامل مع مثل هذه الكوارث، وتندفع فى دوامة هيستيريا التنديد بالأمن، وهى هيستيريا لا تلبث أن تعثر فيها كتائب إليكترونية على تنويعات أخرى تدور عادة حول إشاعة روح اليأس والهزيمة والاكتفاء بالفرجة على كارثة وطنية وكأنها مجرد مباراة بين فريقين لا شأن لنا بهما: فريق الإرهابيين من ناحية.. وفريق الدولة وأجهزتها الأمنية من ناحية أخرى.
إن التاريخ الإنسانى كله حافل بعشرات المواجهات مع هذا النوع من الإرهاب، ولم يحدث أن تمكنت دولة أو حتى إمبراطورية من اقتلاع هذا الإرهاب من جذوره فى ضربة واحدة، أو خلال عام أو عامين، ومكمن الصعوبة هنا أن الإرهابى لا يقيم أدنى اعتبار لقيمة الحياة من الأساس، ثم إنه وصل إلى حضيض الكفر بحياته وبحياة الآخرين أياً كان موقعهم من الصراع، كما أنه يعتبر البشر جميعاً، حتى لو كانوا من ديانته، مجرد رهائن أو على الأقل مجرد محيط يحتمى به من قوات الأمن التى يعرف جيداً أنها ستفكر كثيراً قبل التعامل معه وهو مختبئ بين مواطنين، مهمة الأمن الأساسية هى حمايتهم.
إن «هيستيريا» النقد ومهاجمة الأمن واتهامه بالتقصير والمطالبة بإقالة هذا أو ذاك ومحاسبته فى خضم حادث رهيب مثل حادث الكنيسة البطرسية، سوف يترتب عليها إحساس عام بأنه لا جدوى من المواجهة، وإحساس عام بأن مؤسسات الحكم لا تستجيب لمطالب الشعب، وتلك لعبة إجرامية لا يستسلم لها إلا غافل أو جاهل، وسوف تؤدى على الفور إلى خروج الشعب من المواجهة، والتعامل مع مثل هذه الظاهرة الكارثية وكأنها لا تخصه، ولا يوجد جهاز أمنى واحد فى العالم بإمكانه أن يحرز أى نجاح فى مواجهة هذا النوع من الإجرام، وهو مجرد من ظهير شعبى يسنده ويؤيده ويرجو له السلامة والتوفيق.
هل يوجد ما هو أكثر وحشية وإجراماً وكفراً ووضاعة من تدبير تفجير فى مكان عبادة تصلى فيه سيدات عابدات مع أطفالهن؟.. إن حضيض الإرهاب ليس له قاع، ووضاعة الإرهابى الشاذ نفسياً والمريض عقلياً لن تمنعه من قتل أمه وأبيه وأبنائه إذا كانوا سيمنعونه من تنفيذ عمليته، فأى جهاز أمنى هذا الذى يستطيع أن يوقف مثل هذه العمليات وأن يطهّر منها تربة الوطن فى فترة زمنية محدودة؟!
إن رجل الأمن مكبل بقوانين وتعهدات وأخلاقيات تلزمه بالحفاظ على حياة الآمنين، وليس معنى ذلك أبداً أن هناك عملية إرهابية واحدة، كبرت أم صغرت، تمضى دون مراجعة ومساءلة وحساب عسير وعقوبات أليمة، ولكن هذه المراجعة وهذه المساءلة لا ينبغى أن تتم فى قلب هيستيريا الوجع أو هيستيريا التحريض، وإنما ينبغى أن تكون عملاً قانونياً مؤسسياً يقوم على معلومات دقيقة، وأن تكون إجراءً تتخذه المؤسسة الأمنية بعيداً عن ضغط «الهيستيريا».
المعركة إذن طويلة ومرهقة وفى حاجة إلى وعى شديد وإلى أقصى درجة من درجات التماسك الوطنى فى مواجهة كفرة متوحشين لا يميزون بين مسلم ومسيحى ولا بين رجل وطفل وامرأة.. وإنما يستهدفون مصر أولاً وأخيراً.. ويخططون فى غدر وخسة هم والذين يقفون وراءهم لتخريبها وتدمير كل مقومات الحياة فيها.