«هيكل» يرد على «البرادعى»: الوقوف على أطلال «النكسة» انتقام من «مستقبل الأمة»
هيكل
مثل كثيرين غيره ممن توقف التاريخ فى أذهانهم عند «نكسة 1967»، تلك المحطة الصعبة من تاريخ الأمة العربية التى مر عليها نصف قرن، دون أن يقدموا نقداً موضوعياً يعين الأمة على قراءة تاريخها لتجاوز حاضرها والانطلاق الصحيح نحو مستقبلها، مُصرين بدأب على الإمساك بآلة الزمن والتعلق بعقاربه، وكأنهم يريدون للأمة أن تظل واقفة عند أطلال ذلك المشهد وتلك اللحظة التى انكسرت فيها، ثم ما لبثت أن نهضت بقوة كاسحة، وفى أول ظهور تليفزيونى له منذ استقالته من منصب نائب الرئيس المؤقت قبل 3 سنوات، يعرج الدكتور محمد البرادعى بآرائه على «نكسة 1967»، ويقدم تقييماً مبتسراً للتجربة الناصرية يختصرها فى لحظة «النكسة»، ويعتبر أن «مصر والعالم العربى لم يتجاوزوا نتائجها حتى اليوم»، وفق قوله، متجاهلاً أن الأسد الجريح استعاد، بعد شهور قليلة من الضربة الإسرائيلية، عافيته كاملة، وتمكّن القائد «المهزوم عسكرياً» من تحويل حالة «الفوران العاطفى» التى اجتاحت الأمة تمسكاً به إلى حقيقة سياسية راسخة، تأكدت باستقبال أسطورى للزعيم فى الخرطوم بعد النكسة بـ10 أسابيع، مروراً بإعادة بناء الجيش وحرب الاستنزاف، وصولاً بخطط «عبدالناصر» إلى الانتصار فى حرب 6 أكتوبر، بالتوازى مع مكتسبات لم تتوقف، حققها «عبدالناصر» لشعبه وأمته.
«الأستاذ» يتعرض فى كتابه «عام من الأزمات» للأصوات المُصرة على بقاء الأمة حبيسة «لحظة انكسار»
أين يقف «البرادعى» إذاً بما يردده؟ إجابة السؤال وغيره، سبق أن فنّدها الأستاذ محمد حسنين هيكل، تحت عنوان «الهزيمة والدم والرمز»، ضمن كتاب «عام من الأزمات» الصادر فى 2001، ويتعرض باقتدار لتلك الأصوات البائسة التى تتماهى بقصد أو دون قصد مع ما يتطلع إليه أعداء الأمة من اعتماد «نكسة يونيو» تقويماً يقضى بأن تظل حبيسة للهزيمة وأسيرة لذُلِّها، حتى تقبل فى أمورها ما هو مطلوب منها أن تقبله، دون مراجعة أو احتجاج.
وفي السطور التالية نستعرض نص ما كتبه الأستاذ «هيكل»:
لم يحدث من قبل على طول التاريخ الإنسانى كما نعرفه، وعلى تنوع تجاربه كما وصلت إلينا، أن أمة وقع حبسها (غصباً عنها أو برضاها) فى مأزق ليس له حل كما يحدث الآن للأمة العربية مع ذكرى يوم 5 يونيو 1967.
ومن الحقائق البدهية أن «الزمان» لا يستعاد لأنه حركة لا تتوقف، على عكس «المكان» الذى هو ثابت فى موضعه حتى وإن تغير مناخه!
ويترتب على ذلك أن استعادة «الزمان» يمكن أن تتم بتعويضه وليس بالعودة إليه. بمعنى أن أى خطأ أو عجز، أى نكسة أو حتى هزيمة، لا يمكن مواجهتها بالبقاء عند أطلالها، والبكاء على أحجارها وركامها، وإنما تكون المواجهة بالتصحيح، والتعويض، والتحقيق فى فرص تالية فى زمن آخر.
استعادة «الزمان» يمكن أن تتم بتعويضه وليس بالعودة إليه.. وهو ما حدث فى معارك «الاستنزاف» وانتصار 6 أكتوبر.. وإذا التزمت الأمة بتوقيت «الهزيمة» نهاية لتاريخها فإنها تتنازل عن طموحها وإرادتها بسبب ضربة أو صدمة أو حتى مصيبة
واعتقادى أن ذلك ما فعلته الأمة بعد أسابيع من 5 يونيو 1967 (ومعارك رأس العش)، وبعد ذلك بحرب الاستنزاف من سنة 1968 إلى سنة 1970، وبعد ذلك بحرب أكتوبر بقدرها وجلالها.
لكن يبدو لى أحياناً أن التوقف (أو الإيقاف) عند تلك اللحظة الحزينة من «الزمان» فيه كثير من قصد يهدف أن يفرض على الأمة تقويماً «مستجداً» تلتزم به فى «الفعل»، ولا تخرج عنه حتى فى «الحلم»، ثم يربطها هذا الالتزام -أو الإلزام- بتقويم يسبق أى تقويم آخر، بما فى ذلك التقويم الميلادى أو التقويم الهجرى.
تلك ظاهرة غير مسبوقة فى تاريخ الأمم تعطلها عند ساعة زمنية توقفت عقاربها عند لحظة معينة، ويتوقف التاريخ لأن تلك اللحظة كانت نهايته، والمطلوب أن تظل كذلك فى وعيها «مرجعية يؤرخ بها» حتى إن كانت الأمة فى فعلها قد تجاوزت تلك اللحظة وواصلت صنع التاريخ بعدها!
والشاهد أن ذلك منطق غريب يصادر المستقبل قبل أن يحاسب الماضى (وربما أن ذلك هو المقصود) فإذا التزمت الأمة بتوقيت الهزيمة نهايةً لتاريخها، فمعنى ذلك أنها تتنازل عن طموحها وإرادتها بسبب ضربة أو صدمة أو هزيمة أو حتى مصيبة لحقت بها قبل أكثر من ثلث قرن!
هذا بينما النظر فى تجارب أمم أخرى، حتى تلك التى وقعت على الأرض، ينبئ عن حقائق مختلفة.
وعلى سبيل المثال فإن ألمانيا الإمبراطورية على عهد «ويلهلم» الثانى خرجت من الحرب العالمية الأولى راكعة أمام الحلفاء، لكنها لم تلبث فى ظرف عشرين سنة أن عادت إلى مشروعها القومى تحاول إقامة «الرايخ» (أى وحدة الأمة الألمانية على أساس الثقافة وحدها مرة ثالثة) تحت قيادة «أدولف هتلر».
وكانت هزيمة «هتلر» ساحقة سنة 1945، لكنه بعد أقل من خمسة عشر عاماً كانت ألمانيا تعود إلى تجديد مشروعها تحت قيادة «أديناور» وإدارة «إيرهارد»، ثم جهود «شميدت» و«كول»، وتحقق حلم الأمة الألمانية، وإن كان تحقيقه هذه المرة بقوة «المارك» وليس بقوة «المدفع».
الشىء نفسه تقول به تجربة اليابان التى خضعت خضوعاً كاملاً لأعدائها تحت إملاء السلاح النووى، لكنها فى ظرف خمسة عشر عاماً كانت تصنع معجزتها الاقتصادية وتخرج إلى محيط جنوب شرق آسيا خروجاً أقوى مما طمحت إليه أحلامها الإمبراطورية بقيادة الماريشال «توجو»، وأساطيل الأميرال «ياماموتو» وجيوش الجنرال «ياماشيتا»!
لكن الأمر فى الأحوال العربية ظهر على خلاف ذلك، لأن الذين طلبوا أن يكون 5 يونيو 1967 تقويماً عربياً جديداً كان لهم -ولا يزال- قصد.
حينما يغيب رجل عن أمته ويظل فعله فى العمل العام مؤثراً بعده وحاكماً فذلك إطراء يحكم له بالمقدرة ويحكم على غيره بالعجز
والغالب فى القصد أن تظل الأمة حبيسة للهزيمة وأسيرة لذُلِّها حتى تقبل فى أمورها الداخلية والخارجية ما هو مطلوب منها أن تقبله دون مراجعة أو احتجاج، لأن الهزيمة تحمل معنى من معانى عبودية المهزوم للمنتصر، والعبيد لا رأى لهم، والأمر كله للجلاب والنخاس!
وإذا ادعى أحد بأن الالتزام بتقويم الهزيمة حتى الآن نوع من الحساب عن مسئولية ما جرى يوم 5 يونيو 1967، فإن الاستمرار فيه طوال أكثر من ثلث قرن يتبدى انتقاماً أكثر مما يبدو حساباً.
والسؤال الذى يطرح نفسه هنا: الانتقام مِنْ مَنْ؟
والأرجح أنه انتقام من الأمة فى مستقبلها أكثر منه انتقاماً من رجل فى تاريخه!
انتقام من أمة بحبسها فى العجز أكثر منه انتقاماً من رجل تحررت بالموت روحه عائدة إلى بارئها.
لكن الغريب أن الذين يريدون -وما زالوا- أن ينتقموا من جمال عبدالناصر سواء كان بعضهم فى مصر أو بعضهم خارجها فى العالم العربى، يقدمون فى واقع الأمر للرجل إطراء لا يقصدونه، وهو بالتأكيد يستحقه.
فحينما يغيب رجل عن أمته أكثر من ثلث قرن ويظل فعله فى العمل العام -خيراً كان أو شراً- مؤثراً بعده وحاكماً، فذلك إطراء يحكم له بالمقدرة ويحكم على غيره بالعجز!
وحين يتوقف مشروع قومى لأمة قبل أن يحقق أهدافه تحت قيادة رجل واحد، ثم تظل الأمة بعد ذلك حبيسة الهزيمة والعجز والعبودية، ولا يخرج منها رجل واحد أو جماعة من الرجال تمسك بالمشروع القومى لهذه الأمة وتجدد رؤاه وقواه فذلك إطراء لذلك الرجل الذى تصدى ذات يوم، حتى وإن لم ينجح، وحتى إذا كان قصور جهده عائداً إليه دون مسئولية عوامل خارجية كرهته لأنها كرهت أمته (وما تزال!).
الالتزام بتقويم «الهزيمة» حتى الآن كنوع من الحساب عن «5 يونيو» انتقام أكثر منه حساباً.. ومصادرة «مقصودة» للمستقبل
وحين يفارق الحياة رجل واحد، ثم ترضى أمته -على فرض أنها رضيت- أن تلتزم بتقويم الهزيمة وتقبل بنهاية للتاريخ فهذا إطراء (على نحو ما) لهمّة رجل واحد، والدليل أنه إذا جرى اعتماد تقويم الهزيمة فى العالم العربى فإن أكثر من عشرين كياناً عربياً يقال لها إنه لم يعد أمامها غير أن تتحول إلى نوع من عشرين علبة سردين لا ينقصها غير قطرة من عصير ليمون، وقطرة زيت زيتون، ثم يتحول كل واحد منها إلى وجبة سريعة لإمبراطورية عسكرية، أو إمبراطورية مالية جائعة تبغى شيئاً تأكله فى الطريق (وتلك إهانة للأمة، إلى جانب كونها نوعاً من الإطراء للرجل لا أظنه يطلبه أو يرضاه أو يسكت عليه حتى وهو فى رحاب ربه).
بقيت صورة تستحق من كل الناس أن يقفوا أمامها ويستقرئوا فيها ما تدل عليه!
يوم 5 يونيو سنة 2000 احتفل العرب (بعض العرب وليس كل العرب) بالذكرى الثالثة والثلاثين ليوم 5 يونيو سنة 1967- كما تعودوا وكما عرفنا.
ويوم 6 يونيو سنة 2000 احتفلت فرنسا بالذكرى الستين ليوم 6 يونيو سنة 1940، وذلك هو اليوم الذى سقطت فيه فرنسا واستسلمت بالكامل لاحتلال الجيوش الألمانية التى دخلت منتصرة إلى باريس، ومشى فيه «هتلر» غازياً تحت قوس النصر فى الشانزليزيه، ثم ذهب ووقف مصلوب القامة لا ينحنى -بكبرياء النصر- أمام قبر «نابليون» فى قصر «الأنفاليد».
ويوم 6 يونيو سنة 2000 كان احتفال فرنسا بالمناسبة كريماً على الوطن ومحترماً.
كان البند الرئيسى فى وقائع الاحتفال هو إعادة إذاعة البيان الذى ألقاه الجنرال «شارل ديجول» يوم 11 يونيو سنة 1940 من هيئة الإذاعة البريطانية، وكان «ديجول» وقتها لا يملك رصيداً معنوياً أو سياسياً غير أنه كان قبل شهور وكيلاً لوزارة الدفاع، لكن مطلب الحرية ناداه (وكذلك شجعه «تشرشل») على أن يذهب إلى لندن لاجئاً يعلن باسم فرنسا و«روحها العظيمة الباقية» استمرار المقاومة ضد النازى، ويؤسس فى المنفى حركة يسميها «فرنسا الحرة» تواصل الحرب.
وبعد عدة أيام لم يكن «شارل ديجول» فى المنفى، ولا فى المقاومة، ولا فى الحرب، وحده، وإنما انضم إليه نفر من الضباط الشبان يقودون كتائب جرى تجميع جنود لها على عجل من عسكريين كانوا فى بريطانيا، أو توافدوا من المستعمرات الفرنسية، لتكون منهم تشكيلات قتال أو هياكل تشكيلات (وبينهم الكولونيلات «لوكليرك» و«كاترو» و«بوفر»).
لكن ما كان أهم وأكبر وأبقى أن مجموعة من خيرة مثقفى فرنسا عَرَّضوا أنفسهم للخطر ولحقوا بـ«ديجول» فى المنفى عارفين أن واجب المثقف هو تجسيد روح الحرية. وهكذا فإن «ديجول» وجد حوله فى لندن جيش فكر أقوى من كتائبه العسكرية. مجموعة رجال من عيار «فرانسوا مورياك»، و«أندريه مالرو»، و«أندريه موروا» و«ريمون آرون»، و«بوف ميرى». وكان هؤلاء هم الذين أعطوا لبندقية «ديجول» تأثير قنبلة نووية.
وحين انتصر الحلفاء بقوة الموارد البشرية والاقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، وبوقفة «تشرشل» التاريخية الملهمة، واليائسة فى بعض اللحظات، فإن فرنسا كانت حليفاً منتصراً بقوة الرمز التى أعطتها الثقافة الأصيلة للبندقية العتيقة.
وكان حلفاء فرنسا الذين حققوا النصر الفعلى بمواردهم وتضحياتهم يفهمون قوة الرمز وقد قبلوا فرنسا شريكاً على قدم المساواة فى صنع النصر، لم تركبهم ثارات قبلية، ولم تجرجرهم أحزاب عائدة للانتقام، ولم يشوش عليهم فكر على فرض أنه مبرأ من الهوى لا يعرف كيف يفرق بين الأهم والمهم، وبين الرئيسى والثانوى، ثم يدرك أن الأوطان أولى وأبقى من كل الرجال، وأن تقويم الهزيمة (أو تقويم غيره) لا يسرى على راحل لأن الزمن بالنسبة له توقف، لكن توقيت الهزيمة مؤثر على الأحياء؛ لأن الصراع بالنسبة لهم متواصل، والحياة جارية، والتاريخ لم يصل إلى نهايته!